24-مارس-2021

مواقع التواصل شيء والواقع شيء آخر (فيسبوك)

الكثير منا يراهن على النقد: ما عليك سوى الاستمرار بالنقد، فسيتحول العراق إلى بيئة حالمة ووردية. بل ثمة فئات اجتماعية ليست قليلة تذهب إلى أن تعرية الخطاب الديني وفضح أوهامه سيكون المدخل الأساس لخلق بيئة آمنة ومناخ سياسي واجتماعي مثالي يمارس فيه الناس حرياتهم. والحقيقة في مكان آخر بالطبع، ذلك أن توجيه النقد لعقائد الناس في بيئة اجتماعية لم تنضج بما فيه الكفاية، لا يختلف كثيرًا عن أي موضة "حداثية" مر بها العراق وسرعان ما تبخّرت. لكل شيء بناه التحتية، وأساساته المتينة. والمقدمات العقلانية لتأسيس قاعدة نقدية منتجة هو بناء مؤسسات علمية رصينة تشجع على حرية النقد، ومما لا شك فيه، أن المؤسسات نتيجة لتراكم ظروف معقّدة للغاية، تتشابك فيها مختلف الظروف والتجارب لصياغة مجتمع قائم على الحرية والاختلاف، كما سنبيّن بعد قليل.

بناء الفرد يشكل اللبنة الأساسية لكل حركة تقدمية غايتها التغيير، وهذا الأخير لا يحدث إلا من خلال العمل السياسي

لكن الكثير يبرّر تلك النزعة الحماسية المتفشية في مجتمعنا، والتي تحرق الثمار قبل أوانها، بحرية التعبير، وهذا صحيح إجمالًا. لكن حرية التعبير من  دون حرية تفكير فهي لا تعدو أن تكون تفريغًا نفسيًا لا يثمر أي نتيجة إيجابية، بل سيولّد عداوات شخصية لا معنى لها. ربما من المفيد والواقعي العمل على بناء الذات الفردية وتحصينها بالعلم والمعرفة، لكي تثمر لنا بعد حين نخبة قادرة على استشراف الواقع وشروطه المعقدة. فنحن في مناخ اجتماعي غريب، كثيرًا ما تستهويه لعبة حرق المراحل، وشواهد تاريخنا السياسي خير دليل.

اقرأ/ي أيضًا: الحلم العراقي المُؤَجَل

إن بناء الفرد يشكل اللبنة الأساسية لكل حركة تقدمية غايتها التغيير، وهذا الأخير لا يحدث إلا من خلال العمل السياسي، كما ذكرنا في عدة مقالات، ذلك أن الفكر الأكاديمي، على اهميته العظيمة، لم يكن وحده من قلب الموازين في الغرب الأوروبي، بل اجتمعت كل اسباب القوة العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية،  لبناء الحضارة الغربية. ربما تنفع هذه القوى الثلاث كنموذج تفسيري لفهم التقدم لأي بلد يسعى للازدهار.  فمن هنا،  شخصيًا،  لست مقتنعًا، أن الفكر، على أهميته بالطبع،  قادر على تغيير الوضع، لو فهمناه بهذه الطريقة التبسيطية والشعبية التي تعتقد أن الفكر وحده قادر على تغيير المجتمع، ما لم يقترن بهذه القوى. ذلك أن الشروط الموضوعية ترتبط فيما بينها، ويعتمد كل منها على الآخر لتشكل لنا ظاهرة معينة. لا يمكن للنقد وحده أن يجترح المعجزات بمعزل عن هذه الشروط على الإطلاق.

في كتابه المهم "مذكرات دولة"، ترجمة حاتم عبد الهادي، يذكر الباحث الأمريكي إيريك دافيس حادثة مهمة وذات مغزى تعطينا مؤشرًا واضحًا عن قوة المقدس وقدرته على تغيير دفة الأحداث لصالحه بمدة وجيزة. وأعني هنا  الفتوى الشهيرة للمرجع الشيعي السيد محسن الحكيم ضد الحزب الشيوعي، والتي كانت على هذا الشكل "الشيوعية كفر وإلحاد". يذكر الباحث، نقلًا عن شخص من بيت الحكيم لا يحضرني اسمه، أن حماس الشباب الشيوعيين دفعهم للتندر على زوار ضريح الإمام علي المدفون في الحاضرة الشيعية المعروفة محافظة النجف. ويبدو أن الشباب الشيوعيين في ذلك الحين أخذ بهم الحماس مأخذًا لدرجة أنهم، ربما، كانوا يأملون بزعزعة أركان المقدس في بلد مثل العراق! ثم استثمر القوميون هذه الفتوى وحدث ما حدث.

المعرفة قوة بلا شك، لكن متى تكون قوة؟ ستكون قوة مؤثرة ومقدمة هائلة للتغير لو اجتمعت معها الأسباب أعلاه، ومن دونها سنكون مستهلكين،  والمستهلكون بطبيعتهم دائمًا ما يقفون في طابور الانتظار لتأدية أدوارهم المشوهة القائمة على التقليد والمحاكاة. في بلد متخلّف مثل العراق يخلو من نخب سياسية فاعلة، لا يمكن للاحتجاج وحده أن يثمر ما لم يُتَرجَم كفعل سياسي على أرض الواقع، ويركز على القضايا المهمة والمحورية، مثل المطالبة بمؤسسات عصرية يكون على عاتقها بناء دولة متكاملة وقوية، أما الاصطدام المباشر بلا مشروع واقعي وواضح المعالم فسيكون مكلفًا بلا أدنى شك، وفي مجتمع محافظ مثل المجتمع العراقي، ستكون السلطة الاجتماعية، قبل السياسية، هي من تمارس القمع على كل حراك احتجاجي، مالم تكن الخطوات حكيمة ومدروسة، وتبتعد عن الإغراءات التي تقدمها مواقع التواصل الاجتماعي، فهذه المواقع مغرية وشهية لدرجة أنها توهمنا بتضخيم الذات والمبالغة في تقديرها. مواقع التواصل شيء والواقع شيء آخر. انظر إلى الأحداث بتجرد وموضوعية لترى ماذا ستخبرك!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ثلاث حكومات وجغرافية واحدة

النخب العراقية: كائنات ما قبل التاريخ