02-مايو-2020

ممثلونا لا يهتمون بلغة الجسد إلّا في أضيق الحدود (فيسبوك)

و"لغة الجسد" علم حديث ـ قديم يدرس حركات الجسد وسكناته بوصفها لغة تعكس الدواخل النفسية والثقافية للشخصية. حين يكذب المرء يفضحه جسده، وحين يعشق وتنتابه الصبابة "تفضحه عيونه". الجسد ناقل أمين لما تواريه اللغة، وهو كذلك مجسّد بالغ الدقة لبواطن الشخصية الاجتماعية. أقول إن لغة الجسد علم حديث ـ قديم لأشير إلى أنّ العرب عرفوه وبرعوا باسم علم الفراسة مثلما عرفوا علم العيافة والقيافة. وعلم الفراسة يختص بمعرفة أحوال الناس وبواطنهم من مجرد النظر إليهم، يروون عن إياس بن معاوية أنه نظر إلى رجل فقال: هذا غريب، وهو من أهل واسط، وهو معلّم، وهو يطلب عبدًا له آبق، فوجدوا الأمر كما قال. وإذ سألوه عن كيفية معرفته له قال: رأيته يمشي ويلتفت فعلمت أنه غريب، ورأيته وعلى ثوبه حمرة تربة واسط، فعلمت أنّه من أهلها، ورأيته يمر بالصبيان فيسلم عليهم ولا يسلم على الرجال فعلمت أنّه معلّم، ورأيته إذا مرّ بذي هيئة حسنة لم يلتفت إليه، وإذا مرّ بذي ملابس رثّة تأمله، فعلمت أنه يطلب عبدًا آبقًا.

من يؤدي دور شخصية ريفية من الجنوب، تنتبه إلى إنه قد يتحدث بالـ"جا" والـ"شمالك" والـ"خايب"، لكن ببنرة لا علاقة لها بما نعرفه عن ابن الجنوب

الحقّ أنني تمنّيت أن يكون لدى نقاد الدراما هذا الشغف بلغة الجسد ليوظفوه في كتاباتهم، وليكتشفوا، من ثمّ، مدى نجاح الممثل في تقمّص الشخصية المناط به تقمّصها أو فشله في ذلك. ويخصّ الأمر المخرج والممثل لأنّ الأول يقود الثاني، فيرسم له السكّة الصحيحة لاستبطان الشخصية وإخراج عقدها الداخلية ومشاعرها عن طريق لغة الجسد، وهذه تشمل النبرة واللفتة والحركة والجلوس والقيام، ناهيك عن طريقة المشي والأكل وكل ما يخصّ الجسد من إشارات. على أن لغة الجسد لا تكشف عن بواطن الشخصية الفردية فقط بل تكشف منحدر الشخصية اجتماعيًا، وهذا متأتّ من كون لغة الجسد تحيل إلى منظومة ثقافة اجتماعية تختلف باختلاف الجماعات. لغة جسد الريفي تختلف عن لغة جسد الحضري، وحركات البدوي ونبرته يختلفان الاختلاف كلّه عن حركات الجبليين أو رعاة الجواميس في الأهوار. كلٌ يأخذ من بيئته وفضائه ومنظومته القيمية ما يلائمه مكونًا لغة جسده الخاصة. البدوي مثلًا يتميّز بصوت جهوري ممتد ولكنة حادة، وهذا ناتج عن عيشه في فضاء مفتوح يتطلب علو الصوت، وهو ما يقربّه من الريفي مع اختلاف النبرة، المرفوعة عند البدوي والمكسورة عن الجنوبي. ويصح المنطق نفسه على باقي عناصر لغة الجسد من مشي وجلوس وحركات أيدي وطريقة نظرات، والخ..

اقرأ/ي أيضًا: هستيريا الطشّة: دراما على خطى "إعلام البرتقالة"

ما علاقة ذلك بالدراما؟ علاقتها أن ممثلينا، غفر الله لهم، لا يهتمون بلغة الجسد إلّا في أضيق الحدود. ترى الواحد منهم يؤدي دور "فيتر" لكنه لا يجيد لغة جسده ونبرة صوته، حركاته وسكناته، تقاطيع وجهه المتوترة أثناء العمل أو ضحكه الملعلع في ساعات الصفاء هربًا من الضجر. هو "فيتر" لكنه يتصرف بلغة جسد مدير عام. كذلك يفعل من يؤدي دور شخصية ريفية من الجنوب، تنتبه إلى إنه قد يتحدث بالـ"جا" والـ"شمالك" والـ"خايب"، لكن ببنرة لا علاقة لها بما نعرفه عن ابن الجنوب، نبرة تبدو معها اللهجة مضحكة فهي جنوبية بنبرة بغدادية. من من ممثلاتنا يمكن أن تقول "يع" الاستنكارية كما تقولها جداتنا، أو من من ممثلينا يمكن أن يقول: ههو.. ههو، التعجبية الساخرة كما يقولها زاير صيهود أو حجي مجبل الساكنين في أسلاف العمارة والناصرية. يشمل الأمر لغة الجسد كلّها، فأنت قد ترى هذا الممثل يمشي في السلف لكنك تتخيله يسير في محلة الفضل. أقول ذلك لأنّ مشية الريفي تختلف عن مشية غيره، كذلك جلسة "الشايب" و"تحنيبة" العجوز، ضحكة الشيخ واتكائه على كومة "المنادر" الملوّنة، نظراته لضيوفه، طريقة تناوله لفنجان القهوة، نبرة صوته أثناء الغضب، تهديده أو هزّه لعصاه.

لن أحدثكم عن "التاتو" الذي نراه في المسلسلات مرسومًا فوق أعين "الريفيات" في الهور، ولن نشير إلى الملابس والاكسسوارات. لن نتناول حلاقة الذقن أو تصفيفة الشعر، لن نتحدث عن هذا المحور لأنّه من أوّليات العمل الفني. والمحزن أن المرء حين يقارن ما يراه في أعمالنا مع ما يفعله المصريون والسوريون في مسلسلاتهم سيشعر أنّ هناك سنة ضوئية تفصلنا عنهم.

أي نعم، لغة الجسد بصمة المكان والثقافة، وحين تغيب يفقد العمل هويته ويصبح مادة للتندر والتهكم، وهذه ذروة الفشل لو كانوا يعلمون.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الضعف والتكرار" يستمر في الدراما العراقية.. والانتقاص من الجنوب حاضر

الدراما المشتركة 2020.. بين دراما محاصرة وأخرى ميتة سريريًّا