08-يوليو-2020

ناقش الهاشمي في آخر بحوثه المنهجيات الحكومية في التعامل مع "الفصائل الهجينة"

الترا عراق - فريق التحرير

منذ نهاية الحرب ضد تنظيم "داعش" عام 2018، كرس الخبير في شؤون الجماعات المسلحة الراحل هشام الهاشمي، جل جهده على مراقبة نشاطات الفصائل وسلوكها، والتي أتاح لها تشكيل هيئة الحشد الشعبي غطاءً مناسبًا لتعزيز نفوذها، والتغلغل في مفاصل الدولة، دون التخلي عن ممارساتها تحت عنوان "المقاومة".

ناقش الهاشمي في آخر بحوثه آليات تعامل الحكومات المتعاقبة مع ملف "الفصائل الهجينة" 

من بين البحوث التي نشرها الراحل في هذا السياق، دراسة شخّص فيها الهاشمي أسباب الأزمة داخل هيئة الحشد الشعبي، وحدد من خلالها بدقة حجم الفصائل "الولائية"، حيث خلصت إلى أن "التشكيل الحالي لهيكلية هيئة الحشد الشعبي لم يعد يتفق مع النظام السياسي"، مؤكدًا أن "المعترضين على هيكلية الحشد اليوم أكثر بكثير مما كانوا عليه عند إنشائها".

واقترح الهاشمي في بحثه، "وضع معايير محددة وواضحة لمناصب هيئة الحشد الشعبي واللجوء إلى استخدام القانون العسكري ضد المتمرد، وتنشيط دور أمن وقانونية ومفتشية الحشد لغلق المكاتب الاقتصادية ومعاقبة المخالفين ومنع العمل السياسي والحزبي".

لم تكن الدراسة آخر بحث أعدّه الهاشمي، فقد ناقش الخبير الراحل تعامل الحكومات العراقية مع ما وصفها بـ"الفصائل المهجنة"، من حكومة لأخرى ومن فصيل لأخر داخل الدولة العراقية، منذ عام 2007 وصولاً إلى "صولة الدورة".

وينشر "الترا عراق" بحث الهاشمي الأخير حول الفصائل المسلحة، والذي كتبه قبيل اغتياله وحصل فريق التحرير على نسخة منه، تحت عنوان "المواجهة مع الفصائل المهجنة":


قدرة الدولة على احتكار العنف ترتبط مباشرة في الحد من انتشار السلاح السائب، وتحييد سلوك العنف عند الفصائل الهجينة التي تعيش في منطقة رمادية بين "الدولة واللادولة"، الحزب السياسي المختلط الذي يمتلك ذراع داخل النظام السياسي التشريعي والتنفيذي وذراع أخرى مسلحة عقائدية موازية للدولة.

فقدرة الدولة على فرض سيادتها الداخلية ترتبط بصورة رئيسية بالحد التدريجي مــن تأثير الفصائل والأحزاب الهجينة، مــن دون الدخول بصدامات عنيفة ومعارك تكسير عظام لإنهاء وجودهم، ولكن الخطوة التدريجية تكمن في احتواء كيانهم لإصلاحه، وتفكيك نواتهم الصلبة بفتح حوار قانوني وطني، ومن ثم معالجة المتمرد بفرض القانون ولو بالعنف.

وتكشف التجربة العراقية 2007-2020 العملية مع الفصائل المسلحة الشيعية، عــن أنه إذا ما وجدت الدولة نفسها عاجزة عــن التعامل مع هؤلاء الفصائل أو عن التأثير في سلوكهم بالاعتماد على قدراتها الذاتية، وأن نفوذ الفصائل أصبح مهددًا لمؤسسات الدولة ودستورها وقانونها واقتصادها وسيادتها، فقد تلجأ الدولة إلى الاستقواء بالخارج -الذي قد يتضرر من تعاظم دور الفصائل المهجنة- من أجل عرقلة توسعها في جسد الدولة أفقيًا وعاموديًا.

وتكمن مخاطر اتباع هذه المنهجية العنيفة، وغيرها من المنهجيات الذكية التي هي مركبة من القوة الناعمة والقوة الخشنة، التي تتضمن مواجهة أمنية أحيانًا، في أن نجاح منهجية عام 2008 في تعطيل فاعلية بعض الفصائل المهجنين من خلال استخدام القوة المفرطة لم ينهي وجودهم من الناحية الفعلية وإنما حول مسارات تصادمهم مع القوات النظامية ومنع احتكاكهم بالسكان المحليين.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل سعت هذه الفصائل إلى الانشقاق من التجمعات الكبيرة لتكوين تنظيمات جديدة تحمل نفس جينات العقائدية والمنهجية لكنها أكثر خبرة وفاعلية.

يختلف تعامل الحكومات العراقية مع الفصائل المهجنة من حكومة لأخرى ومن فصيل لأخــر داخل الدولة العراقية، والتعامل مع الفصائل المختلطة أو الهجينة بعد عام 2007 في العراق أظهر أربعة منهجيات سياسية بحسب فترة رئاسة الوزراء:

أولاً: فترة رئيس الوزراء نوري المالكي (2006-2014):

الملاحقة الأمنية والاستهداف العسكري "صولة الفرسان": لم تلجأ حكومة المالكي لأسلوب الملاحقة القضائية والأمنية والاستهداف العسكري كخيار أحادي للحد من تمرد نموذج المجاميع الخاصة المسلحة الشيعية مع هــؤلاء الفاعلين لاجتثاثهم أو لإصلاح ســلوكهم، ولكنها اتخذتها كخطوة لاحقة بعد فشل دائرة المصالحة ودائرة نزع السلاح ودمج المليشيات من احتوائهم عبر نافذة الحوار، إذا ما رأت نفسها عاجزة عن اتباع سياسات المصالحة والحوار في الحد من عنفهم، أو بمعنى أدق أن المجاميع الخاصة نفسها اتخذت من الإجراءات ما يدفع حكومة المالكي لاتباع هذا الخيار العنيف في التعامل معهم، خاصة بعدما رأت تلك المجاميع أن الحكومة تهدد سلطتهم الاقتصادية ونفوذهم المسلح.

وكانت خطوات الحكومة آنذاك بالتعاون مع القوات الأمريكية؛ البدء في استهداف الهيئات الاقتصادية الخاصة بالمجاميع الخاصة وقياداتها والحوار المستمر مع جناحها السياسي وشبكة المكاتب الدينية التي تتبعها، وملاحقة أفرادها المسلحين الضالعين بعمليات مسلحة بالضد من العراقيين فقط وتصنيف أبرز قياداتها ضمن قانون الإرهاب العراقي "4آ/إرهاب لعام 2005".

ويندرج ضمن هذه السياسة أيضًا، اتجاه حكومة المالكي إلى إحداث انشقاقات تنظيمية داخل كتلة المجاميع الخاصة وتسليح المقاتلين المنشقين وحتى مواطنين بعنوان "مجالس الإسناد العشائري" من أجل مساندتها في عملياتها العسكرية ضد عنف المجاميع الخاصة الرافضة للحوار والاندماج مع النظام السياسي القائم آنذاك، لتخرج نفسها من دائرة التصادم المباشر لتترك المجال لجماعات المنشقة للمواجهات المباشرة مع المجاميع الخاصة وهذا ما حدث في البصرة وبغداد عام 2008. ويحمل اتباع هذه المنهجية العلاجية مخاطر كبيرة على السلم المجتمعي، ويحتاج إلى حذر كبير وإلى امتلاك القضاء والقوات الأمنية النظامية القدرة الكاملة عــلى امتلاك إرادة التحكم بزمن المبادرة وإنهاء هذه المواجهة متى أرادت ذلك، فضلاً عن القدرة على إدارة الجماعات المنشقة التي انسجمت مع قرارات الحكومة، حيث قد تحولت تلك الانشقاقات إلى فصائل كبيرة وكيانات مهجنة موازية لكيان الدولة العراقية بعد عام 2011.

هذه المنهجية في لحظة معينة من عام 2008 كادت تدفعنا إلى حــرب شيعية-شيعية، لو انخرط الموالون لطرفي الصراع فيها. كما أن الحكومة فشلت في مرحلة لاحقة في حصر السلاح بيد الدولة، الأسلحة المنتشرة في مختلف المناطق، وهو ما قد يهدد بقاء النظام السياسي ويهدد استقرار الدولة ككل. وتشير الأمثلة القائمة كواقع إلى أن الفصائل التي انشقت من جيش المهدي ومنظمة بدر وكتائب أبو الفضل العباس أصبحت عام 2018-2020 هي أبرز الفصائل المهجنة، حيث ساهمت هذه السياسة في تكوين الطبيعة المهجنة للفصائل الكبيرة.

ثانيًا: فترة رئاسة الوزراء حيدر العبادي (2014-2018):

تعزيز دمج الفصائل المهجنة في الحياة السياسية، وذلك بتشريع قانون 40 لعام 2016 الخاص بهيئة الحشد الشعبي، الذي يفصل بين العمل المسلح والعمل الحزبي السياسي، وتنبع منهجية العبادي، مــن أن تعميق إشراك الفصائل المهجنة في الحياة السياسية وإشغالهم في مشاكل الحكومة والتشريعات، وتجريدهم من السلاح خارج هيئة الحشد الشعبي، وبحسب مدرك حكومة العبادي إن هذه المنهجية سوف تحدث نوعًا من الاعتدال في توجهات قادة الفصائل المهجنة؛ فيصبحون أقل راديكالية وأكثر برجماتية، وأكثر قدرة على التحول من عقيدة الحل بالسلاح إلى عقيدة الحل بالحوار، والانشغال ببناء تحالفات من أجل الحصول على حصتهم من الوزارات والهيئات حتى مــع الأطراف التي تختلف عنهم عقائديًا ومنهجيًا بما في ذلك خصومهم في سلاح.

هذه المنهجية لم يختارها العبادي لكنها فرضت عليه بسبب ضغط معارك تحرير العراق من احتلال تنظيم داعش، وفي العادة تجد الحكومة نفسها مجبرة على اتباع هذه المنهجية، عندما تستند الفصائل في جزء كبير من شرعيتها على فتاوي دينية وتضحيات كبيرة، وإلى عدم قدرة الحكومة على التعبير عن الحد الأدنى من رفضها لتوسع نفوذ تلك الفصائل.

في مرحلة الحرب على داعش قاد أبو مهدي المهندس القائد الأعلى العملياتي والميداني لتلك الفصائل (2014-2020) إدارة سلوك تلك الفصائل نحو توفير احتياجات المواطنين والخدمات التي عجزت الحكومة عــن توفيرها، مثل الاحتياجات الأساسية وحماية أمن واستقرار المجتمع، على نحو يجعل المواطنين على ارتباط بالفصائل ويشعرون بأنهم معنيون بالدفاع عنها تجاه أية أخطار قد تهدد وجودها. وهو ما قد فرض أمر الواقع حول ضرورة إشراك الفصائل في مسك الأرض المحررة حتى بعد إعلان النصر على تنظيم داعش نهاية عام 2017، خاصة في حالة ضعف سلطة الحكومات المحلية والمركزية. ووفقًا لهذه المنهجية، سمحت حكومة حيدر العبادي باستمرار انخراط الفصائل المهجنة في إدارة المناطق السنية ومناطق الأقليات المحررة وفق سقف محدد لا يسمح لهم بالمشاركة بالانتخابات ولكن هذا لا يمنعهم من التحكم بفرض حليفهم من تلك المناطق على رأس السلطة التنفيذية.

في آذار/مارس عام 2018 أصدر الدكتور العبادي تعليمات دقيقة تمهد لانخراط الفصائل المهجنة ضمن منظومة الدفاع الوطني وذلك ليسهل عليه التعامل معها ضمن قانون الانضباط العسكري، حيث يضمن انكشاف مفاصلها وشبكة مواردها الاقتصادية، واعتبرت هذه التعليمات بداية شحناء بين العبادي وقيادات الفصائل المهجنة، التي انتهت بعدم تجديد ولاية ثانية له عام 2018.

ثالثًا: فترة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي (2018-2020):

منهجية تمكين الفصائل المهجنة وأحزابها من المشاركة الوظيفية في السلطات التنفيذية والتشريعية، وبحسب مدرك حكومة عادل عبد المهدي أننا عادةً لا ننجح في تفكيكهم ولا بضبط إيقاع سلوكهم، والأفضل أن نأتي بهم كشركاء لتحمل المسؤولية التضامنية والتشاركية معنا، وقد وفر لهم كل أسباب تحقيق هذه التشاركية، وكم كان محسنًا لهم غير أنهم تعاملوا مع إحسانه لهم بطريقة رديئة أنهت فترة حكومته مبكرًا وأجبر على الاستقالة بسبب احتجاجات تشرين 2019 واستجابة منه لطلب مرجعية النجف. فشلت حكومة عادل عبد المهدي في التفاوض معهم والوصول إلى مستوى معين من التفاهمات، وفي أحداث أمنية كثيرة كانت منهجية حكومة عبد المهدي، سببًا في تحول الفصائل المسـلحة غير المغطاة بقانون 40 لعام 2016 التابع لهيئة الحشد إلى فصائل مهجنة. فاعلية هــذه المنهجية، كان يعوزها قــدرٌ مــن الحزم والضبط من قبل الحكومة، واحترام للشراكة من قبل الفصائل المهجنة، من أجل التوصل إلى تفاهمات تخدم جميع الأطراف، خاصة أن التشاركية تتطلب تنازلات من الطرفين من أجل الوصول إلى الحلول الوسط، والابتعاد عن فرض خطوط حمراء يضعها كل طرف لنفسه لا يقبل التنازل عنها، والتي قد تتناقض ولا تتلاقى في حوادث كثيرة وقعت بعد منتصف عام 2019 ولغاية منتصف عام 2020.

رابعًا: فترة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي (2020-):

منهجية القوة الذكية، وهي مركبة من استخدام القوة الناعمة والقوة الخشنة، واستهداف مصالح الفصائل خارج قانون هيئة الحشد الشعبي وتصنيفها حسب قربها أو بعدها من المعيار الوطني، ومنع تمددها على حساب جسد الدولة العراقية، حكومة الكاظمي تدرك أن من المبكر خوض معركة تكسير عظام مع الفصائل المهجنة، وأن أي محاولة فرض القانون عليهم يمكن أن تتحول إلى مغامرة معقدة، وقد يصعب على الفصائل المهجنة القبول بدمجها داخل جسد الدولة أو التفاوض معها لأسباب عديدة، وهي في الوقت ذاته لا تمتلك الإرادة السياسية الحازمة في الدخول في صدام معهم، وهو ما قد يدفعها إلى اسـتهداف المناصب الحكومية التي استحوذوا عليها بطريقة مخالفة للقانون، وتجريدهم من المكاتب الاقتصادية التي تتحكم بالثروات والمال العام، والتضييق عليهم والتأثير على سلوكهم العنيف.

ويعتبر تعامل حكومة الكاظمي مع حادثة "البوعيثة" جنوب العاصمة بغداد في 26 حزيران/يونيو 2020 نموذجًا مستعجلاً في تطبيق هذه المنهجية، فعلى الرغم من توفر الغطاء الشعبي والقضائي، إلا أن تراجع وتناقض بيانات الحكومة الرسمية، والتوجه نحو فتح نافذة القوة الناعمة وعودة منهجية حوار الباب المفتوح يؤكد عدم دراسة الخطوة قبل الإقدام عليها.

وهذا التراجع قد يوقف محاولات الدولة استخدام القوة الخشنة في الحد من نفوذ الفصائل المهجنة، والعودة للتفاهمات والاحتواء الحذر مــن أجل تقييد تحركاتهم التوسعية ومشروعاتهم الجهادية. فريق الكاظمي قد تعلم دون أدنى شك أنه لابد من وجود دولة قوية تستطيع أن تقوم بمنهجية القوة الذكية لتحجم تمدد الفصائل المهجنة في جسد السلطة والاقتصاد داخل الدولة العراقية التي تنشط فيها، فشل صولة "البوعيثة" أرغمت الحكومة على القبول بتوازنات القوى بين الفصائل المهجنة وبين الدولة.

ويتمثل خطر الاستعجال في تنفيذ هذه المنهجية بأنه قد ينتهي إلى تكرار منهجية عادل عبد المهدي، والخطير إذا ما رأت الفصائل أن هذا الاستهداف يشكل أزمة تهدد بقاءها، وهي تملك من القوة الاقتصادية والعسكرية والإعلامية والمجتمعية ما يجعلها قادرة على ردع كل من يحاول تهديد مصالحها، وإنها قطعًا تستطيع الدخول في مواجهة الدولة على نحو يجعل حكومة الكاظمي القبول بتلك التوازنات.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

دم الهاشمي يطارد الكتائب ويشعل الغضب.. هل يستطيع الكاظمي كشف الجناة؟

اغتيال الخبير الأمني هشام الهاشمي.. ماذا قال في آخر كلماته؟