25-ديسمبر-2020

من الشعر والرقص والغناء إلى المطبخ (Getty)

أجد نفسي مندفعة للكتابة بصورة مستمرة عن نساء العراق عمومًا، ونساء الجنوب خصوصًا، ربما بسبب أحزانهن أو بسبب والدتي الجنوبية التي ذاقت جميع ويلات أن تكون جنوبيًا أو لأنني بطريقةً ما منهن، أو لأن أحزان الجنوب ارتبطت دومًا بمفهوم الإبداع، فالأخير قد يكون وليد مخاضًا مستمرًا مع المأساة. ولأن الحزن يولد من رحم الأم، ويتم توريثه للأبناء كما قال الشاعر عريان السيد خلف في جوابه عن سبب حزن الجنوب المستمر، حيث قال في لقاء معه، إن "العراقيين يرضعون الحزن من صغرهم مع الحليب، لأن المرأة في العراق كانت مستلبة، فقد تُجبر على الزواج من رجل لا تحبه، أو تحرم بالإكراه من الزواج بالحبيب، وذلك إما بقتلها أو تزويجها بابن عمها، لذلك تبقى حزينة، وعندما ترزق بطفل تجسد فيه جميع آلامها، وخاصة عن طريق الغناء له وهو في المهد، لذلك نجد أن الحزن غير مفتعل، فهو متوارث"، فأنه شكل حالة خيمت على الجنوب في أغلب أوقاته، ومنذ نشأته، فهو ليس وليد اليوم، بل يعود إلى الحضارة السومرية، ومن المثير؛ أن هناك أشخاص متخصصين لبث حالة الحزن منذ بداية الحياة في العراق، حيث كان للبكاء نساء متخصصات في الغناء به، يعرفن مداخل الحزن وكيف يقتلعن بآهاتهن القلوب، ويُطلقُ عليهنَّ في اللغة السومرية "أما - أيرا" وفي اللغة الأكدية "أمو-بكتيتي" وتعني في اللغتين "أم البكاء".

أنتجت مخيلة نساء الجنوب مجموعة من الأكلات الخاصة بالفقراء ربما بعضهن مستمرة إلى الآن مثل (كباب العروك أو كباب البيت)

وكانت المرأة منهنَّ متخصصة بالغناء الحزين، وأداء الألحان الباكية في المآتم وذكرى الأموات. وهي مرادفة لكلمة (ملاية) في الوقت الحالي أو (العدادة) وأي حاضر لهذهِ المراسم سوف يجد تناسقًا كبيرًا بين نساء الجنوب في (اللطم) وبين (الملاية) وكأنها محاكاة مستمرة تحت عباءة الحزن المستمر، حيث يعرفن النساء متى يضربن الزنود والصدور والأوجه، ومتى يصرخن ومتى يسكتن، متى تنتكس رؤوسهن تعبيرًا عن الانكسار، ومتى ترفع الرؤوس وتصرخ تعبيرًا عن الألم. وهناك أدوار ثابتة لهن، وكل واحدة منهن تجيده بلوعة غريبة، أما على مستوى الرجال فهناك (الرادود والمهوال). ومع استمرار الحزن، فقد ظهرت شخصيات نسائية اشتهرت برثائها لأحبائها ومن ضمنهن الشاعرة العراقية التي فتحت نوافذها على الحزن، وأسست لأدب النعي والفجيعة في الأدب الشعبي العراقي الحديث "فَدْعة" تلك المرأة الجنوبية التي عاشت في القرن الثامن عشر الميلادي، وفُجِعت بمقتل أخيها الحبيب "حسين" وبعد فقدانه، كرست نفسها لفجيعته، حتى أصبحت أقوالها أمثالًا متداولة في الجنوب، ومنها "الرجل موجود، والولد مولود، والأخو مفقود"، أي أن الزوج والولد يمكن تعويضهما، لكن الأخ لا يجيء مثله ولا يعوض أي أحد مكانه. 

اقرأ/ي أيضًا: أزمة المرأة.. البداية من الأنظمة

ومن فدعة مرورًا بالحروب والثورات التي تصدرها أبناء الجنوب، ووصولًا بالحكم الدكتاتوري الذي أباح لنفسه تدمير كل ما يخص الجنوب العراقي من البيئة حتى الفرد، سواء عن طريق فرض الحصار عليهم بسبب معارضتهم له، أو إدخالهم كجنود في حروب مستمرة تطحنهم، وتجعل في كل بيت لهم كارثة، والذي ساهم بدوره باستمرار حالة الحزن معهم لسنوات، واستمرت الأرامل تنعي، وتبث حزنها لابنها اليتيم عن طريق تنويمه بتهويدة (دللول يا الولد يا ابني دللول.. عدوك عليل وساكن الچول). وأمهاتنا المنكوبات اللاتي يبثن الحزن في صدور أولادهن ساهمن أيضًا في إنتاج أطوار غنائية حزينة، وشعراء ومطربين أصواتهم تعبر عن لوعة لا تكسرها السعادة أو الحب، لأنها مهددة دومًا بالفاجعة، وحتى الرقص العراقي المسمى بـ"الهجع" (تلفظ إلهَچَع بفتح الحاء والچه) هو رقص شعبي عراقي مبني على شعر (التجليبة). والذي تحاكي فيهِ الراقصة آلامها فتفترش الأرض لتمارس اضطجاعها وألمها وعدم قدرتها على السكون وتتمايل بجسدها تعبيرًا عن حزنها.

وانتقالًا من الهچع إلى الغناء النسوي في العراق والذي لم يسلم أيضًا من الأحزان، حيث تبدأ المرأة العراقية بصوتها الشجي بمخاطبة حبيبها، ولأنها ابنة الرافدين وابنة مأساة العراق التي لا تنتهي بسبب حروبه، جعلها دائمًا انعكاسًا لسياسته أو مجتمعه، فربما هي خائفة من المجتمع كما تغني وحيدة خليل، حيث  يوشي أحدًا بقصة حبها لأهلها الذين يقررون أن يتركوا البيت بسبب فضيحة الحب وهي خائفة على حبيبها أن يفز من نومهِ (حملتوا يا أهلي بليل والولف غافي.. أسهر - وخل ينام نوم العوافي) وفي أغنيتها الرائعة لميعة توفيق تذكر جمال حبيبها وتقول إنه جديد على الحب، هو لا يعرف أن الحب مأساة (هو بالحسن باليني بلوه .. أحلى من الكَمر وشويه أضوه ، توه بالعشكَـ يا عمه توه). إن الحبيب هنا صغير ليس عمريًا، لكنه صغير في معرفة أن الحب في بلادنا هو تراجيديا سوداوية، بعد ذلك توضح عفيفة أسكندر أن الفراق في الحب هو مصيبة جليلة (أودعهم وانوح ودمعتي تجري.. أنا العبرات كلها مكسرة بصدري) لتكمل سليمة مراد مأساتها بـ(الف حيف والف وسفة مثلك يخون ويا ولفه) وتطرح انوار عبدالوهاب قضيتها مع والدها عندما تغني له (عد وانة عد ونشوف ياهو أكثر هموم؟ من عمري سبع سنين وگليبي مهموم) أنها مهمومة دائمًا، وفي صراع مستمر مع السياسة التي تسلب منها الحبيب في أحد حروبها، او المجتمع الذي يعتبر الحب محرمًا عليها.

 ولأن الحزن عندما يخيم حتى على منافذ السعادة الصغيرة التي نمتلكها كـ(الشعر والرقص) النسائي فهو بالتالي سوف يجد مكانته في المطبخ، ذلك المكان الذي تقضي فيه نساء الجنوب معظم أوقاتهن، وبسبب الحصار المستمر والفقر الذي كان الجنوب يمتلك فيه الحصة الأكبر، أنتجت مخيلة نساء الجنوب مجموعة من الأكلات الخاصة بالفقراء ربما بعضهن مستمرة إلى الآن مثل (كباب العروك أو كباب البيت) ولكن حتى هذه الأكلة فوقتها كانت هي أكلة ملوك الفقراء (الفقراء القادرون على أن يطعموا أطفالهم ثلاث وجبات باليوم). إذًا، هل سمعت يومًا عن مرق (محروك أصبعه، مرگة هوا، وشواشة، مثرودة؟) هذه الأسماء هي وليدة مواد واحدة، لكن في كل مرة يختلف اسمها أما مناطقياً أو بسبب رغبة الأم الجنوبية في تغيير الاسم حتى تضيف طابع التجديد على ما تقدمه لأطفالها الجائعين، ولكن بالمحصلة هي تتكون من (البهارات والبصل والماء وبعض الخبز) وتوضع على النار لتخرج لنا كأكلة فقيرة المكونات، مليئة بالخيال الخصب الذي أنتج طعامًا بأقل الإمكانيات، ولأن النساء دائمًا ما ينقلن أبداعهن للأخريات، فتجد أن هذه الأكلة قد وجدت نفسها في المطبخ السوري للفقراء. إن الحزن والفقر والمشاكل المجتمعية، كانت دائمًا رحمًا لمختلف الإبداعات الفنية وغير الفنية، وعلى مدار قرون من مخاض النساء مع الحزن نحنُ ننتظر أن نولد جيلًا من النساء الجنوبيات قادرات على أن يتنفسن خارج رحم الحزن الذي حبسهن داخله طويلاً عسى أن نتنفس ما يقال عنه حياة. 

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

المرأة العراقية في الاحتجاجات.. مسعفة ومتظاهرة ومهدّدة

المرأة العراقية أمام "استحقاقات" الاستبداد.. حلقات من تاريخ لم يتوقف