05-نوفمبر-2015

ملصقات من حملة أحمد الجلبي الدعائية للانتخابات البرلمانية في النجف عام 2005 (Getty)

بعد موته بدقائق، امتلأ فيسبوك وتويتر بالكتابة عنه. كل ما قرأته يتحدث عن حسناته. شخصيًا لا أقتنع بفكرة "اذكروا محاسن موتاكم". المديح يتجاهل مئات آلاف الضحايا. وإذا كان هو من أقنع أمريكا بإسقاط صدام، فقد كان بإمكانه أن يقنعها بإسقاطه بلا تدخل عسكري وقتل العراقيين وإيصال البلاد إلى الخراب، على اعتبار أنه يمتلك موهبة الإقناع بشكل كبير.

أحمد الجلبي سياسي كبقية السياسيين العراقيين، إن لم يقتُل ولم يسرق فهو مُشارك في ذلك

هو سياسي كبقية السياسيين، إن لم يقتُل ولم يسرق فهو مُشارك. كان رجلًا أنيقًا وحكيمًا وابن خير، نعم، لكن هذا لنفسه. هو مثلهم. كان يجمع الناس في بستانه بمدينة الحرية، شمالي بغداد، قبل الانتخابات ويسفسط عليهم باسم "الديمقراطية" اللعينة. عندما يخرج الناس من بستانه تجدهم ينظرون إلى أيدي بعضهم، هل جميعهم حصلوا على مائة دولار أم أن هناك تفاوتًا بينهم. كانت هذه الأموال أشبه بـ"الهدية"، لكنها في حقيقة الأمر طريقة لشراء الأصوات. أغلب الأحزاب السياسية في العراق إن لم تكن أجمعها، تعمل بهكذا طريقة لكسب الأصوات.

كان موكبه القادم من المنطقة الخضراء، أو الذاهب إليها، يغلق الطريق قبل ربع ساعة من مروره بساحة عدن، حيث بستان والده ومقر إقامته. السيارات تقف في الساحة على شكل مخطط بطريقة مافيوية. كل ما فيه يشبه أي سياسي آخر. المختلف هو أنه أحمد الجلبي.

الجلبي المولود عام 1945 من عائلة بغدادية في شمال العاصمة، كان والده عبد الهادي الجلبي وزيرًا للتجارة في العهد الملكي الذي انتهى حُكمه عام 1958 بعد انقلاب عبد الكريم قاسم عليه، ليُغادر إثر تلك الأحداث البلاد ويتجه مع عائلته إلى الأردن.

يُتهم الجلبي من قبل البعثيين بأنه عرّاب الاحتلال الأمريكي في العراق. بالمقابل، يُتهم من قبل الأحزاب الشيعية الرافضة لحزب البعث والوجود الأمريكي في آنٍ واحد بـ"العميل" لـCIA. السُنة يرونه علمانيّا بنفس شيعي. الأمريكيون يرونه "الكاذب" الذي "ورّطهم".

ربما هو أكثر شخصيات المعارضة شهرة قبل 2003 في العراق. أغلب الموجودين في السُلطة الآن كانوا يتوددون للتقرب منه. كان الرجل القريب جدًا من أمريكا، وفي الوقت ذاته كان يرتبط بعلاقة إيجابية مع إيران. هو الرجل الذي يعرف أسرار الاحتلال الأمريكي للعراق، كما أنه الشخصية الأبرز في المعارضة العراقية ضد نظام صدام حسين. يُمكن القول أنه "الصندوق الأسود" للحرب الأمريكية على العراق.

نجح في إقناع العراقيين بأنه كان السبب في خلاصهم من صدام. هو العراقي الذي صدّقه الأمريكان، إلى أن انتهى الود وقالت عنه أمريكا: "ورّطنا بمعلومات كاذبة حول أسلحة الدمار الشامل في العراق". قد يبدو غريبًا هذا الانقلاب الأمريكي عليه، لكن الأغرب هو أن لا يمنحه الأمريكان أي منصب مهم في الدولة العراقية، أثناء سنوات العسل بينهما.

كان أحمد الجلبي مهنيًا وماكرًا وذا شخصية قوية، يتقن أكثر من لغة، ويعتمد على لغة الأرقام في كل شيء

يمتلك الجلبي عقلية اقتصادية وسياسية تفتقدها الطبقة السياسية الموجودة في العراق الآن، وللأمانة، من الظُلم تسمية الموجودين في الساحة السياسية العراقية بالسياسيين والجلبي بذات الصفة. كان مهنيًا وماكرًا وذا شخصية قوية. كان يتقن أكثر من لغة، ويعتمد على لغة الأرقام في كل شيء. أتذكر عندما زرته في منزله بمدينة الحُرية عام 2012، برفقة كادر لتصوير فيلم وثائقي، قلت له في حديث جانبي يشهد عليه المخرج السينمائي العراقي علي عزيز: "ألا تعتقد، يا دكتور، بأن الطبقة السياسية الموجودة في العراق هي أساس خرابه، وأن وجودها يُزيد مآسي العراق". ابتسم وفتح قنينة المياه وقال: "هل تعلم بأن هؤلاء جميعًا يعتاشون على خراب البلاد، والإبقاء عليهم يعني وصول العراق لمكان لا عودة منه، مع ذلك هُناك من يعمل على تصحيح مسار العملية السياسية".

لا أعرف هل كان الجلبي يُريد إقناعي بأنه مُصلح وسط مافيات القتل والدمار من السياسيين، أم أنه فعلًا كان كذلك. ما يُمكنه إثبات ذلك، هو الحراك القوي الذي عمله في مواقع التواصل الاجتماعي وإعلاميًا من خلال التلميح بفتح ملفات فساد كبيرة، ومحاولته لتصحيح مسار عمل البنك المركزي والاقتصاد العراقي بشكل كامل.

في العاشر من آب/أغسطس الماضي بينما كُنت في لقاء على قناة "الحُرة عراق" في برنامج "عين على الديمقراطية"، مع ضيفي البرنامج الآخرين الدكتورين عباس كاظم وهشام الهاشمي، في حوار يقوده الصديق حسين جرادي، وصلتني رسالة من شخص معروف في العراق (لا أستطيع ذكر اسمه)، بأنه: "في بيروت يجلس مع الجلبي، ويعدون منذ أيام مجموعة ملفات فساد كبيرة ستُفتح قريبًا". بحسب الصديق الذي راسلني وكان يُهيئ للقاء لي مع الجلبي، فإن الأخير: "كان يعد لحزمة ملفات فساد كبيرة قد تُغير مسار أشياء كثيرة في العراق".

الحديث عن أحمد الجلبي طويل جدًا، وربما سيصدر في المستقبل شيء ما يخصه، لا أريد الخوض في تفاصيل أكثر، لكن ما أردت قوله إنه جزء من طبقة سياسية عاثت في العراق خرابًا، وإن لم يكن مشاركًا فكان ساكتًا عن كل ذلك، ورغم ما يمتلكه من دهاء وحنكة سياسية، لم يستفد العراق منها.

مات الجلبي، وماتت معه أسرار احتلال العراق.

اقرأ/ي أيضًا:

عراق تائه بين السفارات وتلفوناتها

وداعًا أبا حسين.. أهلًا أبا علي