07-يوليو-2022
الاستبداد

السياسة في العراق محبة الاستبداد (فيسبوك)

للصداقة معنىً حميم ينعكس مثل المرآة، وينطوي على لذّة اكتشاف أعماقنا المظلمة. إنه الصديق الذي يمثل النور الكاشف والخيط الهادي لفهم أنفسنا. إنّها علاقة تضايف يكتمل فيها أحد الطرفين بالآخر. ما علينا سوى اختيار القرين المناسب الذي يضمن لنا جدوى هذه الرحلة، أو الشخص الأمين الذي نستأمنه على ممتلكاتنا الداخلية. وحده الصديق من نؤمّن له هذه الرحلة، لتغدو العلاقة فيما بعد سيرورة اعتماد يكمل أحد الطرفين صورة الآخر. لا من أجل فضول شخصي أو هتك للخصوصية، وإنما تكامل من نوع خاص. لذلك يحرص المرء المتبصّر بحقائق الأمور أن يختار القرين المناسب فـ"الصاحب ساحب" كما تقول الحكمة.

أدمن السياسي العراقي على أن يتمثل في شخصية المستبد

وما أكثر أصدقاء السوء وتسويلاتهم الشيطانية، وما أكثر التحذيرات قديمًا وحديثًا التي تذكرنا باجتناب أصدقاء السوء. على أن نفهم الصداقة بمعناها الأوسع والأشمل، ذلك أن الرموز والمفاهيم والحقائق المجردة تندرج ضمن هذا السياق أيضًا. لذلك يٌعَرَّف الفيلسوف، مثلًا، على أنه "صديق الحكمة"، وأن المبذرين "أخوان الشياطين". فالصداقة والأخوّة هنا مفاهيم وليست حقائق عينية.

 كذلك، أن المستبّد الذي نذكره هنا ليس بالضرورة أن يكون شخصًا مٌعَيَّنَا بقدر ما هو "شخصية مفهومية" بحسب تعبير جيل دولوز، وما صدام حسين وسواه إلا ظلال لهذا المفهوم. وبين حقبة سياسية وأخرى يحلو للقوى السياسية في العراق أن تتمثّل هذه الشخصية المفهومية، مثلما تمثل أفلاطون سقراط في الحوارات التي وصلتنا، ومثلما تمثّل نيتشة زرادشت، ومثلما تمثّل ديكارت أبله ديستويفسكي. أما السياسي العراقي فتمثيله الذي أدمن عليه هو شخصية المستبد.

 صداقتنا للمستبد هي صداقة للمفهوم- أو الشخصية المفهومية - وظلاله وانعكاساته وتمثّلاته السياسية والاجتماعية والنفسية. وليس صدام حسين هو المستبد الأوحد بقدر ما هو أحد تمثيلات ثقافة الاستبداد التي تنتشر كالنار في الهشيم في ثقافتنا.

 إن البنية الاجتماعية والنفسية للثقافة العراقية ساهمت بشكل مباشر في ترسيخ أواصر الصداقة هذه، أعني صداقة المستبد؛ أنه "يفكر" بالنيابة عنّا، ويتصرّف دون إذننا ويمهّد لكل نظام سياسي قائم على الطغيان.

اقرأ/ي أيضًا:
هل مات المستبد؟

أدب الحماسة وروح "الهدّة" العشائرية، وتاريخ الأسلاف هو النقطة المركزية التي تدور عليها رحى ثقافتنا الاجتماعية والسياسية. وأي مروق عن هذه "الثوابت المقدسة" هو إيذان صريح بالاستفزاز.

 لذلك لا يكتب النجاح لأي ظاهرة اجتماعية وسياسية جديدة خارج أفق الاستبداد، إذ سرعان ما يخفت بريقها ومن ثم تنتصر العادات لنفسها ويظهر المستبد، صديقنا الأثير، بسرعة خاطفة بعد غياب لفترة وجيزة.

 

إن الضوابط الأخلاقية لمجتمع تقليدي مثل المجتمع العراقي لا تضع خطوطًا حمراءَ ضد الاستبداد بل لا يُعتَبَر هذا الأخير من ضمن أولوياتها.

لا تنصحنا الأسرة، ولا يشجعنا التعليم، ولا تلهمنا الصداقات الأخرى للتمسّك بالحرية أو ممارستها، فهي فعل شائن وعادة ما نرادفها بالتحلل والإباحية، وفي نهاية المطاف ينتصر المستبد صديقنا الحميم الذي نستلهم منه كل أنشطتنا الفكرية والسلوكية. شخصيتنا المفهومية الوحيدة والأقرب إلى وجداننا هي شخصية المستبد. وإذا كانت الفلسفة محبة الحكمة، فالسياسة في العراق محبة الاستبداد.

إن ظهور المستبد في نظامنا السياسي هو تجسيد حرفي لنظامنا الاجتماعي. وليس هذا التجسيد نتاج علاقة أبدية وإنما تحصيل حاصل لحالة تاريخية أفرزت لنا ثقافة يتمحور عقدها الاجتماعي على عبادة الشخص. لذلك يأتي التمثيل مطابقًا، أي مطابقة واقعنا السياسي لواقعنا الاجتماعي.

 إن سيرورة العمل السياسي لا تعكس سوى البنية الاجتماعية التقليدية، بينما لو ظهرت طبقة سياسية متنورة، ستكسر هذا الجمود، وتعلن رفضها القاطع لتحكّم الاستبداد الاجتماعي في مصيرها السياسي. ذلك أن التغيير، أولًا وبالذّات، سياسي قبل أن يكون اجتماعيًا، وهذا الأخير يتطور تبعًا للتغييرات السياسية الحاصلة.

ما نراه في حالتنا الراهنة هو صداقة حميمة وجذابة ويصعب مقاومتها بين النخبة السياسية الحالية وبين البنية الاجتماعية التقليدية. وهذه الأخيرة تدفع بكل أشكال الطغيان إلى أقصى مدى ممكن، لأنها ليست معنية بالأسئلة المفصلية والهامة التي أفرزتها الحداثة السياسية، بقدر ما هي معنية بصداقتها الأثيرة وعقدها التاريخي مع مفهوم المستبد.

يعبر مسار السياسة في العراق عن محبة كبيرة للاستبداد

 بنية اجتماعية يمكنها أن تعدّ معركة صغيرة بين عشيرتين قضية مفصلية، لكنها لا تدرج الفساد والمظلومية وحقوق الآخرين المهدورة، التي يشرعنها الاستبداد، ضمن كتابها المقدس.

ولأن الصديق وقت الضيق كما يعبرون، فإن الاستبداد هو الصديق الوفي لكثير من العراقيين كلما ضاقوا ذرعًا بالحرية! الاستبداد الذي رسخّ فيهم قيم القبيلة والمذهب، وألهمهم فكرة أولوية الشخص على المؤسسة. ولا زلنا منذ عقود أوفياء مخلصين لهذا الصديق الشيطاني الساحر!