28-أكتوبر-2020

أقسى أنواع المعاناة حينما تفقد القدرة على التمييز بين السعادة والتعاسة (فيسبوك)

في عالم الواقع أولى بقضية ما أن تكون مجدية من أن تكون حقيقية، إذ أن أهمية الحقيقة هي في توسيعها لمجال الجدوى. ألفريد وايتهيد.

إن كانت ثمّة إشكالية كبرى يعاني منها الكائن البشري هو الجهل بالواقع؛ الصراع المستمر بين ما يسقطه الذهن من هلوسات ورغبات محاولة منه فهم الواقع من خلالها، وبين الواقع كما هو بمعزل عن هلوساتنا الذهنية. فارق كبير بين ترميم الذات النرجسية، وبين ترميم الواقع الموضوعي. الأولى ميدان أحلام وتجريد، والثانية ميدان عمل واختبار. لذلك لا تريد الذات النرجسية الوقوع في فخ الاختبار، لأنها ستنكشف ألاعيبها وتتضح مغامرتها الحالمة وتظهر عورتها في ميدان التجريب. إن النظر للواقع كما هو لا يعني الاستسلام لتعقيداته، بل يعني سك المفاهيم من صلبه للاستعانة بتحليله. إن المفاهيم المٌنتزَعة من الواقع هي المصابيح التي ترشدنا لتناقضاته.

لقد كافحت السلطة الحاكمة، ولا زالت، بتغييب البدائل اللازمة للتغيير

 في العراق، على وجه الخصوص، نعاني من مشكلة عويصة: كثرة المنطق التجريدي وقلة الخبرة العملية. المنطق التجريدي يقول، مثلًا، هناك صراع بين الدين والعلمانية. والخبرة العملية تقول هناك دولة غائبة ونخبة فاسدة. وهذه نقطة بارزة تظهر مصيبتنا بجلاء: القفز على شروط الواقع وتعقيداته، ومحاولة فهمه وتحليله برغباتنا. ومن يقول عكس ذلك يخرج من ملّة الديانة الشعبوية، ويغدو خائنًا في أعينهم. إن الاستماع إلى المنطق الموضوعي يقلل من حجم الخسائر، ويختصر المسافات. أما الضجيج الفارغ فسيضاعف من معاناتنا ويطيل الرحلة، لدرجة أن الكثير منّا سيتوقف في منتصف الطريق. ذلك أنه لا أحد مستعدًا للسير تحت ضجيج الشعارات الانفعالية الفارغة. وإذا ما رأينا صاحب قضية لا يحسن سوى الصراخ، فلنتأكد أن المضمون فارغ، ذلك إن ضجيج الأوعية الفارغة أكثر ضجيجًا من الأوعية الممتلئة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تفكر الجماعة؟

لا زالت الأصوات الفارغة تحلق في أحلامها، ولا تريد الانصياع لصوت المنطق العملي. وهذا الأخير يقول إن الجماعات العقائدية أكثر تنظيمًا وهي المهيمنة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. وتتمتع بجمهور غفير واستبسال في المحافظة على وجودها. هذه ليست معلومة وإنما تذكير بصعوبة الممارسة السياسية حينما تنحصر فعالياتها بالتنديد فحسب، ولا تفكر بخطوات أكثر عملية، أو تقر بصعوبة الموقف وإشكالياته. رغم كل الصعوبات التي تواجه أي تنظيم سياسي جديد، غير أن الصعوبة الأبرز هو فقدان الحاضنة الشعبية، من يفتقر للتأيد الشعبي سيعين الخصوم على نفسه! قد تكون التجربة المريرة التي مر بها العراقيون درسًا حاسمًا وبليغًا لتوحيد الصفوف وتغليب منطق العقلانية على منطق الحماس، غير أن هذا الأمنية لا زالت في طور التجريد أيضًا!

الغريب إن الفريقين يشتركون بذات الأحلام (الجماهير العقائدية وخصومها)، وهذا يشير بوضوح إلى ثقافتنا المأزومة بفعل الضربات الموجعة التي تلقتّها. على سبيل المثال: تدخل الجماهير العقائدية في معارك عسكرية شرسة للدفاع عن البلد وحماية الحدود من الجماعات الإرهابية، ولا زالت حتى هذه اللحظة هي من تمسك الأرض. وقد سجّلت انتصارات باهرة، وأعطت عشرات الضحايا في معارك التحرير. لكنها مٌغَيَّبَة سياسيًا بإرادتها واختيارها، عن طريق الانشغال بمعارك وهمية لا علاقة لها بالواقع بقدر ما لها علاقة بالمنطق التجريدي الكفاحي (مثل الانشغال بـ"العلمانيين"، أو الانشغال بـ"التشرينيين، ويبدو أنها مستمتعة لذلك). ولا تطالب بحقوقها السياسية والمدنية على الإطلاق، ولا تحاسب ممثليها السياسيين. كل شيء يغدو مقدسًا عند هذا الجمهور إلا الحقوق؛ فهي مسكوت عنها كليًا، ولا زالت في عداد الطقوس السرانية ولا يجوز التفوّه بها.

وبما أننا نشير إلى ثقافتنا المأزومة؛ فلهذه البنية الثقافية ذات المنطق التجريدي، سواء كنّا ننتمي إلى الجماعات الدينية أو غيرها، أو كنّا متدينين أم لا، فالنتيجة واحدة مع اختلاف المستويات. على سبيل المثال، تعتقد الكثير من الفئات الاجتماعية على أن العلمانية هي الحل. حتى لو لم تصرح حرفيًا بذلك، فالمضامين تقودنا إلى هذه الحقيقة. ومن يعتقد بالعلمانية هي الحل فهو يبشر بديانة جديدة من حيث لا يشعر. ذلك أنبل الأفكار تفقد مضمونها وينتهي بريقها وتخسر حاضنتها الشعبية فيما لو قطفت قبل أوانها. مشكلة العراق أكبر من العلمانية لو كنّا نفهم. ليس هذا فحسب، بل يأخذهم الحنين إلى النموذج العلماني الفرنسي الإقصائي. لكنّهم، وبكل كفاح، يرفضون الممارسة السياسية المٌنَظَمَة بحجة التشرذم والشقاق.

لقد كافحت السلطة الحاكمة، ولا زالت، بتغييب البدائل اللازمة للتغيير. والغريب أنها نجحت في هذا التغييب لدرجة تماهي الكثير من الفئات الاجتماعية معها من حيث لا تشعر عن طريق رفض الممارسة السياسية المُنَظَمة. الواقع الموضوعي يخبرنا بحقيقة مفادها: إذا تكررت ذات الأدوات ستكرر معها ذات الأحداث. وإذا حدث ذلك فنحن نسير،لا شعوريًا، في ركاب السلطة. كيف؟ عن طريق أعانتها على تدمير البديل، أعني رفض التنظيم. في حين يخبرنا الواقع النفسي عن حقيقة أخرى: خصومات، تسقيط، اتهامات، عدم الاتفاق على رأي، وفقدان الثقة. من يمارس السياسة عليه أن يتذكر أنها عبارة عن تاريخ من الاختلاف والانقلاب والانشقاق. بمعنى أنها ليست معلومة جديدة، وليست مبررًا للتنكر للتنظيم. ومن لم يضع هذه الحقيقة نصب عينيه، فهو غارق في أحلامه الوردية ومنطقه التجريدي حد النخاع.

أقسى أنواع المعاناة حينما تفقد القدرة على التمييز بين السعادة والتعاسة، وتغدو هذه الأخيرة عادة متأصلة وتدافع عنها. هذا ما يحدث في العراق بالضبط

 المشكلة أن صوت الجهل هو الأقوى من بين كل الأصوات، وصوت العقل لا يُسمع إلّا بعد فوات الأوان، فالخطاب الشعبوي هو الخطاب المرغوب (من الجماعات العقائدية وخصومها) هذا الخطاب الذي يصر بكفاح عجيب على نسيان المعاناة والتبرير لها! إن الشخص الحكيم يصف المعاناة وعلاجها، في حين تشبث الجاهل، بكل قوة، بهذه المعاناة، كما لو أنها هويته الأساسية. إن أقسى أنواع المعاناة حينما تفقد القدرة على التمييز بين السعادة والتعاسة، وتغدو هذه الأخيرة عادة متأصلة وتدافع عنها. هذا ما يحدث في العراق بالضبط!

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سنوات المخاض

جدالات حتمية.. عن حوار الدين والعلمانية

دلالات: