23-مارس-2020

خرج أصحاب التكاتك في العراق فكانوا وحدهم في الساحات (Getty)

لكأنه يتحدث عنهم أو بلسانهم، أعني محتجي تشرين الذين أعادتهم سلطة (الكورونا) إلى بيوتهم حتّى حين. إنه بيير جوزيف برودون، فيلسوف الفوضوية أو (اللاسلطة)، الاشتراكي الفرنسي الذي آمن، بفضل مراقبته لثورة ١٨٤٨، أنّ الجماهير وحدها هي القوى المحرّكة للثورات الشعبية. لهذا كتب وكأنه يخطّ لافتة لأهل التكاتك بساحة التحرير: "لا تحتاج الثورات إلى طليعة، فهي تقع عندما يكون ذلك مقدّرًا وتذوي بأفول القوى الغامضة التي أطلقتها"، مراهنًا على ما يسميه (الحدس الخاص) للشعب، الحدس الذي يصبح أعمق إدراكًا مما لو خضع الشعب لقادته وسياساتهم.

خرج أصحاب التكاتك، فكانوا وحدهم في الساحات. ثمّ ما هي إلّا أن شعر المثقفون أنهم أمام موجة شعبية لا سابق لها حتى ارتدوا كماماتهم وهرعوا لتصدّرها

مبدأ الأمر أنّ الثورة الاجتماعية الحقيقية تتحرك من الأسفل الى الأعلى وليس العكس. قاعدة الهرم هي التي تثور وليس الرأس. في هذه الثورات فقط، على الرأس أن يتبع القاعدة ويلهث للحاق بها وهذا ما جرى في احتجاجات تشرين. خرج أصحاب التكاتك، المكاريد المسحوقون، فكانوا وحدهم في الساحات. ثمّ ما هي إلّا أن شعر المثقفون أنهم أمام موجة شعبية لا سابق لها حتى ارتدوا كماماتهم وهرعوا لتصدّرها. لكن هيهات، فالحراك ليس حراكهم، والثقة بهم شبه منعدمة. لا أحد يسمعهم ولا حتى يلحظ وجودهم.

اقرأ/ي أيضًا: عصر الجماهير: لا جديد تحت نصب الحرية

بالعودة إلى تنظيرات الفوضويين أو فلاسفة الـ(لا سلطة)، المنادين بتحطيم السلطات والدساتير والنظم السياسية، فإن ما يرونه هو الآتي؛ ما هي إلّا أن تتجاوز الثورة لحظة تحطيم البنى القديمة حتى يكون على الجماهير إعادة تركيب البناء الاجتماعي بنفسها. تعيدها بفوضى خلّاقة، دون إيحاء من طليعة أو تخطيط من قيادة. تصبح الجماهير "شخصية مستقلة"، تتحرك بحريّة وتتشكل دون قوانين. لهذا يحتقر الفوضويون النخبة ولا يعترفون بها. إنها برأيهم مجموعة من الطفيليات التي تلتصق بظهر الجماهير كالقراد وتتغذى من دمها. مقابل هذا، يحتفي الفوضويون بـِ"روعة التنظيم العفوي العالية التي يمتلكها الشعب ولا يتسنّى له إبرازها إلّا نادرًا".

هل ثمّة من يشكك بهذه الفرضيات؟ يقول بيوتر كروبوتكين: "لن يشكك بهذه الحقيقة إلّا من أمضى حياته منكبًّا على مكتب". يعني المثقفين من ذوي ربطات العنق الملوّنة، أولئك الذين توسطوا بين طبقة المسحوقين والبرجوازية وقدموا أنفسهم على أنهم متحدثون باسم الطبقتين. هكذا أفهم دورهم؛ المثقفون فئة شبه مستقلة تتوسط بين البرجوازية والبروليتاريا. ورغم أنّهم يبدون أقرب في الانتماء إلى البرجوازية، إلّا أنهم غالبًا ما يأخذون على عاتقهم تمثيل الطبقات الفقيرة والحديث بلسانها. دعكم من الشكوك التي أثيرت حولهم، انعزاليتهم بأبراج عاجيّة، تعاليهم على العامّة، أو حتى إشاعتهم الأوهام حول أهمية دورهم الطليعي. دعكم من هذه التهم واسمعوا لبيير بورديو كيف يوحي أنّهم، رغم ما يبدو ظاهرًا من انتسابهم للسلطة المهيمنة وعملهم كـ"صغار الضباط في جيش" بحسب تشبيه غرامشي، إلإ أنهم واقعون، في الجوهر، في دائرة المهيمن عليهم.

يقول بورديو إنّ المثقفين يستحوذون على السلطة الرمزيّة بالمعنى الضيّق، "لإظهار الأشياء وجعل  الناس يؤمنون بها"، غير أنّهم قد يضعون سلطتهم الرمزية في خدمة المسيطرين أحيانًا، مثلما يحدث أن يضعوا سلطتهم الرمزية نفسها "في خدمة الخاضعين في المجال الاجتماعي" في مستوى آخر. إنّهم، بالأحرى، يقومون بوظيفة مزدوجة؛ يخدمون السلطة التي هم جزء منها، في جانب، ويخدمون المسيطر عليهم اجتماعيًا، في جانب آخر. ازدواج غريب يجعلهم عرضة للارتياب. لهذا طردهم الفوضويون ومنظرو الشعبوية من الصفوف الأولى في ساحات الثورة الجماهيرية، وعاملوهم على أنّهم ديماغوجيون مخادعون أو "مرتزقة" يمكن أن توظفهم السلطات لوأد حركات الاحتجاج الشعبية ونخرها من الداخل.

نعم، لا تحتاج الثورات الجماهيرية إلى قادة من النخبة. إنّها نسيج وحدها وتتحرك من تلقاء نفسها وفقًا لحدس الشعب. هكذا يزعم منظرو الشعبوية قديمًا وحديثًا، وهكذا سمعنا من شبّان ساحات الاحتجاج في العراق، وبلغة شعبوية لا تنظير فيها ولا فذلكات. هكذا قالوا، فماذا يقول سواهم؟

ثمة أجوبة سيحين وقتها.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"التكتك الوطني".. من مصدر للمضايقات إلى بطل الاحتجاجات

في انتظار السياسة