09-فبراير-2021

المنظومة السياسية لم تتغير كفكر وسلوك وعادات (فيسبوك)

الإنسان حيوان مبرر. هادي العلوي

بعد عقد من الزمن أو أكثر ستضطر العديد من المؤسسات والشخوص الإعلامية للبحث عن شخصيات سياسية مهمة عاصرت هذه الحقبة الراهنة لتروي الحقائق كما هي! مثلما نشاهد الآن بعض الشخصيات التي كانت تنتمي لحزب البعث البائد، وهي شخصيات تعرضت للظلم والإجحاف، بشكل وبآخر، من قبل صدام حسين، ما أعطاها تحفيزًا إضافيًا للشهادة الصادقة على حقبة البعث السوداء، وعن الكواليس المظلمة التي كانت في طي الكتمان.

التصحيح يعني في ثقافتنا فعل عنيف يستفز جرحنا النرجسي الغائر في عمق شخصيتنا

 ثمة شخصيات نذرت نفسها لقول الحقيقة مهما كان الثمن، غير أنها اختارت الشهادة وهي في آخر العمر. بمعنى أن شبح الخوف لا زال يطاردهم، لكن حينما تذبل زهرة العمر لم يعد للخوف من معنى. فحقائنا دائمًا ما تكون رهنا بالمعمّرين! ليس لأنهم عاصروا حقبة بعيدة تاريخيًا، بل لأنهم ينتمون إلى ثقافة وهوية تأبى المكاشفة مع نفسها إلّا بمزيد من التبرير. فمن هذا الجانب تبقى الحقيقة في صدورهم  يدّخرونها لأواخر العمر.

اقرأ/ي أيضًا: المفاهيم العميقة ونظامنا البدائي.. تعقيد بلا معنى

يقول المؤرخ أرنولد توينبي ما مضمونه، إن "المؤرخين على وجه العموم يميلون إلى توضيح آراء الجماعات التي يعيشون ويكدحون في محيطها، منهم إلى تصحيح تلك الآراء". وهذا الكلام ينطبق على ثقافتنا بالتحديد. فالحس النقدي غائبًا فيها لدرجة إننا نربط النقد بكرامتنا الشخصية! لذا يتخذ معظمنا اتجاه "التوضيح" بدلًا من التزام "التصحيح"، ذلك أن التوضيح يضمن لنا كرامتنا وما كنّا ونكون عليه. إن التصحيح يعني في ثقافتنا فعل عنيف يستفز جرحنا النرجسي الغائر في عمق شخصيتنا. والتوضيح بمرور الزمن يتحول إلى "تأبيد" وهذا الأخير يتحول إلى "مقدس"، والمقدس يتغلغل في ذاكرتنا كبنية راسخة، وهذه الأخيرة توّلد مقدسات فرعية، حتى لو كانت تنظيمات حزبية، فهي تدخل في عداد المقدس. وعند ذاك يتمركز الخطاب حول نفسه ويصاب بالصمت. ولهذا الصمت مدلولات عدة، من قبيل أن تشطر نفسك نصفين؛ نصف ديني، والنصف الآخر سياسي. فحينئذ أنت في حل من النقد (أو التصحيح). فتصحيح المسار، على سبيل المثال، يعني أنك تعديت على النصف الأول! وعلى هذا المنوال يبقى الصمت آلية مضمونة للتأمين على الحياة، لأنه من الجنون والحمق أن تفرّط بحياتك بصورة مجانية من أجل التصحيح في ثقافة نسجت منظومتها السياسية طبقًا لصورتها، أعني صورتها التي تكافح بشراسة أي سلوك نقدي يهدد وجودها.

من الصعب أن تعثر على شرعية سياسية مفهومة ومعقولة إلا من حيث كونها تتشبث بأذيال المقدس. بدون أدنى شك لا يطال كلامنا هنا المقدس بذاته، وإنما بتوظيفاته ونتائجه الوخيمة حينما يوظف سياسيًا، فيتحول إلى طاحونة عنف سياسي لا تنتهي إلا بنهاية المنظومة السياسية التي قامت بحراسته. إن نقد المنظومة السياسية في ثقافتنا تساوي نقد المقدس. فما عليك سوى المشاركة بعنوان ديني أو مذهبي فسيحل لك ما تشاء من فساد وإفساد، فمن يجرؤ على النيل من المقدس!

وبما أننا أبناء أوفياء لثقافتنا، فماضي البعث ليس ببعيد؛ إذ شرع صدام حسين، بعد أن فقد شرعيته السياسية، أن يتبنى أهل البيت كأجداد أصلاء، ويعلن بكل وقاحة من أنه حفيد شرعي لأئمة أهل البيت! وبين ليلة وضحاها أصبح صدام عبد الله المؤمن. ونستنتج من ذلك حقيقة جلية: أن المنظومة السياسية لم تتغير كفكر وسلوك وعادات، بقدر ما تغير شخص واحد لا أكثر ولا أقل. لا زالت ثقافتنا كما هي: تنتصر للتوضيح (أو بتعبير أدق: التبرير) على حساب تصحيح المسار. ولا نستغرب حينما يظهر في المستقبل مؤرخون وظيفتهم الأساسية التبرير لكل هذه الإخفاقات وشرعنتها بصورة عقائدية فجة، فنحن أبناء مخلصون وطيبون لثقافتنا الأم، تلك الأم التي أرضعتنا حد النخاع من التبرير والتوضيح. فمن يتآمر علينا أكثر من أنفسنا!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الدولة المختطفة

تعددية إجبارية.. فراغ ديمقراطي ينتظر الرجل الواحد