05-سبتمبر-2018

الفنّان والنحّات العراقيّ علي الجابري (1948 - 2018)

غيَّب الموت أمس 4 أيلول/سبتمبر الفنّان والنحّات العراقيّ علي الجابري (1948 - 2018) في العاصمة الإيطالية روما. الجابري الذي نقل خبر وفاته الموسيقي العراقيّ نصير شمّه عبر صفحته الشخصية في الفيسبوك ليلة أمس، رحل بعيدًا عن تراب أرضه الأولى التي غادرها منذ 50 عامًا. لكنّه ربّما رحل كما تمنّى أن يرحل دائمًا، إذ كانت أمنيته أن تنتهي حياته ببساطة شديدة ومن تلقاء نفسها. أي أن تنتهي على يد الله بطريقة لائقة، لا أن تنتهي بطريقة بشعة على يد خلقه. هي أمنية قديمة تمنّاها ابن محافظة ميسان، جنوبيّ العراق، لنفسه وللآخرين بعد المشاهد المفزعة التي وصلته من بلاده إبّان الغزو الأمريكيّ لها.

لا تسلك أعمال علي الجابري خطًّا أو نمطًا واحدًا، ولا ترتهن لفكرة أو شكل معيّن

لم يكن حضور الفنّان العراقيّ علي الجابري الذي غادر بلاده بداية السبعينات لدراسة النحت والإقامة في روما متداولًا عربيًا كما يجب. ظلّ حضوره متأرجحًا بين الهامش تارةً، والمتن تارة أخرى. وربّما لهذا الأمر علاقة برغبته في أن يظلّ منعزلًا وبعيدًا عمّا من شأنه أن ينتهك خصوصيته كفنّان. وأيضًا، لأنّه لم يبحث من خلال الفنّ عن شهرة أو مجد أو مال، وإنّما عن متعته الشخصية فقط. ولذلك، وصف أعماله في أحد الحوارات بأنّها لا تقلّ أهميةً عن أولاده وأحفاده، وأنّه لطالما انهار باكيًا حين تُباع واحدة منها. هكذا، أمضى علي الجابري سنوات حياته منكبًّا على عمله في الغربة، مؤسِّسًا لأعمال أسّست بدورها له مكانةً خاصّة في الساحة الفنّية الإيطالية التي مثّلها في مناسبات عدّة، فجاء ردّ وزارة الثقافة الإيطالية بنصب ما يزيد عن 20 نصبًا من أعماله في الساحات والدوائر الحكومية، قبل أن تفتتح متحفًا خاصًّا لأعماله في مدينة روما.

اقرأ/ي أيضًا: الجيل اليتيم في البلاد التي اختارها المهرّبون

لا تسلك أعمال علي الجابري خطًّا أو نمطًا واحدًا، ولا ترتهن لفكرة أو شكل معيّن، إنّها مزيج بين الفن التشكيلي الذي درسهُ في العراق، والنحت الذي درسه في روما. هكذا ولدت فكرته في خلق هذا التناغم بين الفكرة من جهة، والمادّة من جهة أخرى، مُستخدمًا في تنفيذها موادَ مختلفة بين حديثة وكلاسيكية، دفعت الناقد الإيطالي فيتوريو كويريل لوصف علي الجابري بأنّه من أبرز الذين حقّقوا نجاحًا عالميًا ومبهرًا في خلق هذا التناغم بين الأجناس الفنّية.

[[{"fid":"102574","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"علي الجابري","field_file_image_title_text[und][0][value]":"علي الجابري"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"علي الجابري","field_file_image_title_text[und][0][value]":"علي الجابري"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"علي الجابري","title":"علي الجابري","height":384,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

أي محاولة لفهم أعمال علي الجابري، ستكون ناقصة تمامًا إذا تعاملنا فقط مع ما كُتب عنها من دراسات نقدية وما شابه. الأمر دون شك يستدعي عودة ضرورية إلى الماضي بوصفه مسؤولًا عن تكوين وصقل وعيه وموهبته التي تفجّرت فجأة بعد اكتشافه الطين في صغره. هذا الاكتشاف بمفرده يصلح ليكون قصّة، ذلك أنّ من دفع علي الجابري الصغير إليه هما والداه اللذان وجدا في الطين بديلًا للألعاب التي كانت تشغل تفكير علي الجابري ككلّ الأطفال، دون أن يتمكّن والده من شرائها له. وأيضًا، من غير الممكن تجاهل ما عايشه الفنان الراحل علي الجابري من تقلّبات سياسية وانقلابات عسكرية وحروب غيّرت نظرته للحياة والفنّ معًا، إلى أن غادر أخيرًا العراق متّجهًا نحو إيطاليا، مجرّبًا هذه المرّة شعور الغربة التي لازمه حتّى وفاته.

أي محاولة لفهم أعمال النحات علي الجابري ستكون ناقصة تمامًا إذا لم نعد لى الماضي الذي صقل وعيه وموهبته

وبعد ذلك جاءت الحرب الأمريكية على العراق. تعامل علي الجابري مع هذه الحرب وما خلَّفته من ويلاتٍ ومآسٍ، لا سيما توسيعها للمسافة بينه وبين مكانه الأوّل، كفرصة لمساءلة الألم وتأمّله بشكله الجديد، قبل أن يزجّ به أخيرًا في عوالمه الفنّية. والفنّ عند علي الجابري دائمًا ما بدا كائنًا قادرًا، بمفرده، على فهمه والإصغاء إلى ما يجول في ذاته من حزن وأنين. وأيضًا، التعبير عن مشاعره التي لطالما بدت هي الأخرى هشّة، تحديدًا عند حديثه عن العراق. فالفنان علي الجابري الذي لم يكن عمره قد تجاوز الـ5 سنوات حين بدأ اللعب بالطين وتحويله شيئًا فشيئًا إلى فنّ خالص؛ ظلّ مسكونًا بالعراق طيلة سنوات إقامته الطويلة في مدينة روما الإيطالية، وتحوّل الأمر من مجرّد حنين إلى الأرض الأولى، إلى وجع مزمن على ما حلّ بها من خراب.

اقرأ/ي أيضًا: معرض صدّام الجميلي عن اسمه: أنا الدكتاتور في أسوأ أوقاته

لن يظلّ هذا الوجع خفيًّا لمدّة طويلة، وفي أوّل مقابلة تلفزيونية له جرت بعد الاحتلال الأمريكيّ للعراق بعدّة سنوات، لن يتمالك علي الجابري نفسه، وسينهار باكيًا بين جملة وأخرى يستعيد فيها وطنه بصوره القديمة المحفورة عميقًا في ذاكرته. سيبدو واضحًا للجميع أن الدموع التي ذرفها علي الجابري، ما هي إلّا نتيجة طبيعية للأهوال التي عايشها الرجل بعيدًا عن العراق الذي لا ينفكّ يلفظ أبناءه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مقامات عبد القادري.. الواسطي مرّ بالكويت

ضياء العزاوي يطلق صرخته في الدوحة