11-يونيو-2022
سعد لمجرد

أفعال ستتكرر (فيسبوك)

أُعلن مؤخرًا عن إلغاء حفل الفان المغربي سعد لمجرد في بغداد، ليس نزولًا عند دعوات منعه من الغناء في العراق نظرًا لتاريخه في قضايا الاغتصاب والتحرش، بل أُلغي الحفل بعد هجوم مجاميع، استجابةً لدعوات أطلقتها منصات مقربة من "التيار الولائي"، على مكان الحفل وإقامة صلاة جماعة على أبواب السندباد لاند!

إلغاء حفل سعد لمجرد في بغداد من قبل جماعات مقربة من إيران يشير إلى أن هذه الأفعال آخذة بالتوسع والتكرار

وبالرجوع في شريط الزمن أسبوعين تقريبًا، أطلقت ادارة السندباد لاند إعلانًا بشأن الحفل، والإعلان هذا لا يمكن أن يُنظر اليه إلّا كنكتة مؤلمة، مثل نكات المضطهدين. يقول الإعلان إنّ "حفل سعد لمجرد تم تأجيله الى التاسع من حزيران/يونيو لتزامنه مع ذكرى أربعينية الإمام علي"، وهي مناسبة لا وجود لها في التراث الشيعي إطلاقًا. لك أن تتخيل حجم الرشوة التي قدمها منظمو الحفل بحيث أنهم اختلقوا مناسبة دينية، ومن ثم أجلوا الحفل لتزامنه مع هذه المناسبة الوهمية، فقط لاسترضاء هذه الجماعات وشراء ودها! والنتيجة كانت إلغاء الحفل بالقوة، إذ لم تفلح هذه الرشوة، بل حصل العكس تمامًا! وهذا ما يبدو أنه سيحصل في كل مرة يُقدم فيها تنازلًا من أي نوع لاسترضاء هذه الجماعات؛ ذلك أن الجماعة، أيّ جماعة، لا تمتلك خيارًا إلّا أن تستمر بتوسعة سلطتها على الآخرين.

كثيرة هي الدوافع التي تدفع الجماعات، الدينية وغير الدينية، إلى فرض رؤاها على المجال العام، وبغض النظر عن الدوافع

الأيديولوجية/العقائدية، أفترض أن الأهم هو النظر إلى الدافع السايكولوجي لهذه الجماعات كمؤشر يقود إلى الإجابة على السؤال التالي: ما هي الآليات المناسبة لمنع هذه الجماعات من التغول على الآخرين؟

لا أعتقد أن أي جهد دعائي توعوي سينفع في ردع أي جماعة من التغول على حريات الآخرين، فالجماعة محكومة بالضرورة، لناحية سلوكها، بهاجس الخوف. ولذا فإنّ الأولوية لديها هو استدامة الوجود وليس فرض الرؤى، بل أن هذه الأخيرة ليست إلّا آلية لاستدامة الوجود، فمن دونها ستدخل الجماعة تدريجيًا في حالة موت سريري وصولًا إلى الاندثار. فلكي تستديم وجودها، تحتاج إلى عوامل لخلق التضامن بين أفرادها وتذويب ذواتهم في ذات جمعية أكبر، ولذا لا يوجد دافع للتضامن أكبر من وجود خطر خارجي داهم، ولا قيمة هنا للسؤال عن حقيقة وجود خطر مهدد، فإن لم يكن الخطر حقيقيًا اختلقته. وهكذا ستستمر الجماعة في عملية خلق الأعداء إلى ما لا نهاية.

 

ولذلك، فإن هذه الجماعات لن تتصالح مع الآخر في المجال العام، ولن تجنح ذاتيًا للتعايش معه، إلّا بوجود الإرغام على التعايش بقوة القانون وقوة المؤسسات، ولا حل لتفكيك "دكتاتورية الجماعات" التي نعيش تحت وطأتها اليوم إلّا بالإجابة عن سؤال الدولة، بل لا حل لكل أزماتنا إذا ما قررنا الققز على هذا السؤال والانشغال بأسئلةٍ أُخرى لا قيمة لأجوبتها قبالة أزماتنا المزمنة، فهي كلها ناتجة من فقدان إجابة ذلك السؤال المفقود: الدولة!

أفترض أن ما حدث يوم أمس، وما حدث قبله من رضوخ شبكة الإعلام العراقي لإرادة الجماعات المقربة من إيران في حادثة منع برنامج الإعلامي سعدون محسن ضمد، كله يشير إلى أن ثمة خطأ جسيم في ترتيب سلم الأولويات لدى الفاعلين السياسيين الساعين للتغيير، وأعني "التشرينيين" هنا. إذ لا بد من تذكيرهم في كل حدث من هذا النوع، بأن الأولوية في فترة كهذه، ليست للتبليط وليست للخدمات وليست لمكافحة الفساد المالي والإداري، بل ليست حتى لإصلاح اختلالات النظام السياسي. إنّ الأولوية القصوى هي للتصدي للقوى التي تسعى لتقليص مساحة الحقوق والحريات. بل أنّ هذه المهمة هي شرط تحقيق ما دونها من مهام، فلا إصلاحات على أي مستوى من المستويات، من دون وجود مؤسسات دولة أصلًا. وبتعبير أكثر اختزالًا: إن معركتناومعركتكم في هذه البلاد على الدولة بالدرجة الأساس. أما الانشغال بسواها -رغم تفهم مسؤوليتكم من هذه الناحية أمام ناخبيكم - سيحولكم إلى مجرد أعضاء مجلس بلدي بصلاحيات موسعة قليلًا.

أولوية النواب الذين وصلوا إلى البرلمان عن طريق احتجاجات تشرين هي التصدي للجماعات التي تحاول إنهاء الحقوق والحريات

إن النظر إلى مثل هذه القضايا كقضايا ثانوية أو غير جوهرية، أو الشعور بأن مواقعكم الحالية لا تستوجب مواقف أكبر من مواقف الإدانة والشجب- والكلام موجه للنواب التشرينيين- فأنتم واهمون جدًا؛ فما يحدث من تغول هذه الجماعات على المجتمع، يمس جوهر هويتكم وخطابكم والهدف الأساس الذي من أجله رُفِعتم إلى البرلمان. مرة ثانية، أن مجابهة هذه الجماعات، والسعي إلى منع تغوّلها على حقوق الناس وحرياتهم، يُفترض يأخذ مكانه الطبيعي والبديهي على قمة أولوياتكم كممثلين لشريحة واسعة من المحتجين. هذه حقيقة يُفترض أن لا تغيب عن أذهانكم ما دمتم في موقع النيابة وما توفره من أدواتٍ للمجابهة غير تلك المتوفرة للناشطين والفاعلين في حركة الاحتجاج. أما تجاهل هذه الحقيقة، فسيفرغكم تدريجيًا من محتواكم إلى حدٍ لن تكونوا فيه أكثر من قطع أثاث لا قيمة لها في مجلس النواب ومن لا يرتضي هذا الدور، فليجرب النزول إلى الشارع حيث ينتظره "جلاوزة الجماعات" بقناصاتهم وكواتمهم. ولات حين مندم.