13-فبراير-2019

من تظاهرات 11 شباط/ فبراير 2017 (فيسبوك)

وسط أزيز الرصاص ودوي انفلاق القنابل المسيلة للدموع ودخّانها، وهتافات عشرات الآلاف من المتظاهرين المُندفعين باتجاه الشارع المؤدي إلى "جسر السنك"، بعد تقهقرهم أمام نيران "المُلّثمين" المتمركزين وسط جسر الجمهورية، للحظات، غاب عني كل ذلك ومثلت أمامي صورة محمد مهدي الجواهري، وهو يخاطب أخاه جعفر الذي استشهد خلال الانتفاضة الرافضة لمعاهدة "بورتسموث"، وجدت نفسي أردّد دون شعور "أتعلم أم أنت لا تعلمُ/ بإن جراح الضحايا فمُ".

انفجرت قنبلة صوتية أطلقها أحد الملثمين باتجاه نصب الحرية أدركت خلالها أننا ندور في ذات الدوامة منذ قرن من الزمان

في أثناء ذلك انفجرتْ قنبلة صوتيّة أطلقها أحد المُلثمين باتجاه نصب جواد سليم "نصب الحريّة"، الذي كنتُ مع مجموعة متظاهرين، نقف بالقرب منه. انتبهت على دويّها بعد أن شردَ ذهني لثوانٍ، ادركتُ خلالها أننا ندور في ذات الدوّامة منذ قرن من الزمان، هي معادلة لم يُحسم صراع طرفيها، راسمةً ملامح شعبٍ يُناضل لاسترداد كرامةٍ مسلوبةٍ، قبالة زمرة لصوصٍ تمسك بالسلطة وهي تمثل "طبقة طفيليّة" تعتاش على نهب ثروات شعبٍ قامرت بمقدرات أجياله أنظمة تعاقبت على حكم البلاد.

"فلاش باك"

في أواخر كانون الثاني/ يناير 2017، أطلق عدد من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي دعوات للتظاهر احتجاجًا على الأزمات التي تعصف بالبلاد في ظل عجز حكومة حيدر العبادي عن إيجاد الحلول، فضلًا عن عدم التجاوب مع المطالب الرامية للبدء بعمليّة إصلاحٍ شامل، بدأ من بُنية مؤسسات الدولة وصولًا لشكل النظام السياسي. بعد التنسيق مع اللجنة المركزية المشرفة على الاحتجاج، تمّت الدعوة للتظاهر وجاءت استجابة الشارع سريعة، فبعد مضيّ عشرة أيّام على أول دعوة للتظاهر، كان المحتجون قد تظاهروا سبع مرات، أتذكر تلك الأيام جيدًا، كانت أيامًا تصعيديّة بامتياز ودائرة خوف الساسة الذين يقبعون خلف جدار المنطقة الخضراء تتسع أكثر كلما أعلنت لجنة الاحتجاج عن أمر جديد أو طالب المحتجون بخطوات تصعيديّة أُخرى.

اقرأ/ي ايضًا: في ذكرى تظاهراتنا.. الصراع داخل "طائفة الاحتجاجات"

قبل موجة التصعيد هذه، انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي وسم "هاشتاج"، #تغيير_المفوضية_مطلب_عراقي، الذي أطلقته صفحة صالح محمد العراقي المقربة من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، عبّر هذا الوسم عن مطالبة الصدر بتغيير رئيس وأعضاء مجلس المفوضيّة العليا للانتخابات، لم يتوقف الصدر عند هذا الحد، بل وجه كتلة "الأحرار"، الجناح السياسي للتيّار الصدري بالعمل على تغيير قانون الانتخابات "سانت ليغو" المصمم لسيطرة الكتل "الكبيرة" على البرلمان، واصفًا ايّاه بـ"المجحف".  

ولأن مطالب الصدر مثيرة للجدل دائمًا، كشخصيته تمامًا، انقسم الشارع السياسي على إثر ذلك لجبهتين، هناك من وصف تحرّكات الصدر هذه بأنها تشخيص دقيق للخلل الذي أصاب النظام السياسي برمته. فالمفوضيّة العليا للانتخابات، إضافة لعملها كماكنة تعيد تدوير النفايات السياسيّة وإعادة إنتاج ذات الوجوه السياسية المسيطرة على النظام منذ عقد ونصف، كانت كأي مؤسسة من مؤسسات الدولة، تخضع، أيضًا لـ"تحاصص" الكتل السياسيّة.

على نقيض هذه الرؤية، كانت الجبهة الثانية ترى أن الصدر قد ابتعد عن المطالب الواقعيّة التي تمس حياة المواطن بشكل مباشر، فالناس لا تتماهى مع المطالب السياسيّة، بقدر ما تتماهى مع المطالب المتعلقة بأزمة الكهرباء مثلًا، أو شحة المياه الصالحة للشرب، أو حتى ارتفاع أسعار الطماطم.

شخصيًا، كنتُ أعتقد بصحة الرأيين، لكني، مع ذلك، كنت مع الصدر في مطالبه السياسية، لقناعتي أن الإصلاح يبدأ من رأس الهرم ثم إلى ما دونه تدريجيًا، فالمشاكل الخدميّة لن تنتهي بشكل جذري إذا لم تنته قبلها المشاكل التي تعتري النظام السياسي.

يبدأ الإصلاح من رأس الهرم ثم إلى ما دونه تدريجيًا.. حيث أن المشاكل الخدمية لن تنتهي بشكل جذري إذا لم نقضي قبلها على مشاكل النظام السياسي

في تلك الفترة غرقتْ "المفوضيّة" من كل الجهات بسيلٍ من الاتهامات الدائرة حول تزوير انتخابات 2014 النيابيّة لصالح "المالكي" رئيس الوزراء الأسبق. وللطرفة، فأن رئيس المفوضيّة، حينها، أقسمَ بالإيمان المُغَلَّظة نافيًا تلك الاتهامات نفيًا قاطعًا، رغم كونه مرشح  ائتلاف دولة القانون لمنصب رئيس المفوضية!.

أقرأ/ي أيضًا: الصدريون في سلامهم وحروبهم.. من الثورة إلى سائرون

 واستكمالًا لمشروع تغيير المفوضيّة وقانونها، استثمرت اللجنة المركزيّة للاحتجاج حالة الغليان في الشارع ودعت لتظاهرة "غاضبة" عصر يوم 8 شباط/ فبراير أمام مقر مفوضيّة الانتخابات، وكما الحال في التظاهرات السابقة، وصل المتظاهرون سيرًا على الأقدام بعد أن قطعت عليهم الطرق، وبعد المنع من الاقتراب من مقر المفوضيّة، تقرّر أن تكون التظاهرة في ساحة الحرية القريبة من مقر المفوضيّة. مع مرور الوقت تجمّع المتظاهرون في الساحة بأعداد كبيرة جدًا، وعلى أنغام النشيد الوطني والقصائد والأناشيد الحماسيّة، بدأت في الموعد المحدد فعاليات التظاهرة واستمرت لقرابة ثلاث ساعات هتف خلالها المتظاهرون ضد فساد الساسة، إضافة للهتافات المتعلقة بمطلبهم الوحيد المُتمثل بـ"تغيير المفوضية" شُخوصًا وقانونًا.

كانتْ هذ التظاهرة هي السادسة وقبل الأخيرة في سلسلة التظاهرات تلك، وقبل أن يطلب المنظمون إخلاء الساحة بعد اختتام فعاليّات التظاهرة، طلبوا من المتظاهرين الإصغاء، ثم أعلنوا عن موعد تظاهرة أخرى، لكنها مليونيّة هذه المرّة والدعوة عامّة لكل المحافظات للقدوم إلى العاصمة بغداد، كان المكان المحدّد للتظاهرة هو ساحة التحرير والزمان في 11 شباط/ فبراير 2017.

ماراثون يزحف نحو العاصمة!

بدأ التحشيد للتظاهرة المُرتقبة منذ الوهلة الأولى للإعلان عنها، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالمنشورات التي تحث على المشاركة بمليونيّة 11 شباط/ فبراير،  فعلى مدار 72 ساعة قام الناشطون الصدريون إضافة لناشطي الحزب الشيوعي وبعض التنسيقيات المدنية بجهدٍ جبّار في الدعوة للتظاهرة، لم يكن هناك متسع للرد على الاتهامات بحمل أجندات "بعثية"، التي طالتهم بعد التظاهرة السابقة المتزامنة مع ذكرى استيلاء حزب البعث على السُلطة بعد انقلاب 8 شباط/ فبراير 1963.

كان "النفس الثوري" المعروف عن الصدريين يُلهب الأجواء بالحماس، فلا حديث إلا عن ذلك الماراثون الاحتجاجي، ولا شغل يشغلهم إلا تحضير أماكن المبيت المخصصة لمئات الآلاف القادمين من خارج العاصمة، ليس هذا وحسب، بل جُمعت التبرعات، أيضًا، لمن لا يملك أجرة النقل إلى بغداد، وحملة التبرعات هذه لها صلة بقصة الشاب النجفي ومنشوره في فيسبوك الذي تحسَّر فيه لامتناع الصاغة عن شراء خاتمه الفضي، كان ذلك الشاب النجفي يريد بيع خاتمه لأنه لا يملك مبلغ أجرة النقل يحضر فيها التظاهرات في بغداد!.

في تظاهرات 11 شباط/ فبراير أراد شاب نجفي أن يبيع خاتمه الفضي لأنه لا يملك أجرة النقل لبغداد!

مع حلول ظلام ليلة 11 شباط/ فبراير، بدأت قوافل المحتجين تصل بغداد، وعدا بعض المضايقات في المداخل الرئيسية التي سرعان ما حلت، فان مئات آلاف المحتجين تمكنوا من دخول العاصمة دون مشاكل تُذكر، لم يبق حي من الأحياء "الشعبية" في العاصمة إلا وفتحت أبواب منازله أمام المحتجين الذين شدوا الرحال من محافظات الوسط والجنوب، باتَ أغلب المحتجين ليلتهم تلك في الأحياء ذات الغالبيّة "الصدريّة" أي أحياء شرق العاصمة، مدينة الصدر وما حولها. ولشدة الحماس، نام بعضهم في "حديقة الأُمّة"، الحديقة التي تقع خلف نصب الحرية مباشرة الذي سيكون فيه مكان التظاهرات.

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة والنصف صباحًا حين انطلقتْ فعاليات التظاهرة بعد أن ملأت ساحة التحرير بالجموع التي امتدت على امتداد الشارع الرابط بين ساحتي الطيران والتحرير وصلولًا لشارع السعدون والشارع المؤدي إلى ساحة الخلاني على يمين ويسار الساحة، كان الحضور مليونيًا والجميع يهتف للعراق في مشهد ذابت فيه كل الهويات الفرعية تمامًا كما ذابت كل الألوان ليطغى اللون الأحمر، أبرز ألوان العلم العراقي الذي رفرف على هدير الهتافات والأناشيد. بعد عدد من الفقرات التي أعدتها اللجنة المنظّمة، ارتقى منصة التحرير خطيب الصدريين المفضل، أنه أمير خالد، ذو الصوت الجهوري والكلمات المتناسقة التي لطالما الهبت ساحات الاحتجاج.

اقرأ/ي أيضًا: من المطالب الخدمية إلى "إسقاط النظام".. حرب حركات ومواقع الثورة العراقية

تكلَّمَ (ابن خالد) كما يحب الصدريون تسميته، عن أهمية النتيجة التراكميّة التي ستفرزها حركة الاحتجاج هذه، مستعرضًا تجارب الأمم في سعيها للخلاص من طواغيتها، تشارلز الأول ولويس السادس عشر ونيقولا الثاني وشاهنشاه إيران، كلّهم، لم يُزاحوا بيوم أو يومين، بل أكلوا من أعمار شعوبهم أجيالًا عدة، فالصبر وتراكم التجربة هما ترياق النصر، ثم خاطب الجمهور "أتعلمون أحبتي ما يعني أن تعود إلى ذاتك؟ يعني أن تُخاطب شعبك وأُمَّتك، كما خاطبَ ذلك الشاعر حبيبته: "قولي.. انفعلي.. انفجري، لا تقفي مثل البسمار، لا توجد منطقةٌ وسطى، ما بين الجنة والنار".

اختتم خالد كلمته بأبيات نزار قباني، بعدها أُعلن عن حدث عاجل، كان خبر استقالة ممثل كتلة الأحرار من مجلس المفوضين احتجاجًا على رفض أعضاء ورئيس مجلس المفوضيّة تقديم استقالاتهم.  

مضت ثلاث ساعات على بدء التظاهرة وبدا الإحباط على وجوه المتظاهرين واضحًا، كانوا يتأملون الإعلان عن خطوة تصعيديّة تقابل الرفض الذي قوبلت به مطالبهم، بدأ الحديث عن إعلان اعتصامٍ مفتوح مثلًا أو دخول "ثالث" إلى المنطقة الخضراء!، لكن شيئًا من هذا لم يحدث.

كان الإحباط واضحًا على وجوه المتظاهرين لكن هذا الإحباط ذهب  حالما جاء الأمر بالزحف نحو المنطقة الخضراء

انتشر المتظاهرون في الأزقة المحيطة بساحة التحرير ظهرًا، عادوا بعدها وعاد معهم الإحباط ، كنت أراقب انسحاب المتظاهرين من الساحة، مجموعة بعد أخرى بعد أن دب اليأس في نفوسهم، لم يمضِ على هذا الحال إلا دقائق، بعدها تبدد الإحباط على هدير صوت (أحمد عبد الحسين) عضو اللجنة المركزيّة المشرفة على الاحتجاج. طلب عبد الحسين من المتظاهرين عدم الانسحاب لأن اللجنة تنتظر بيانًا "مهمًا ".

حين احتدم الموت

جاءت رياح النجف تحمل بيانًا للصدر يجري بما تشتهيه سفن المحتجين، وجه الصدر ببيانه بالزحف نحو المنطقة الخضراء والمكوث عند بواباتها إلى المساء ثم الانسحاب بهدوء دون محاولة أقتحام المنطقة. اكتشفت، بعد أيام، أن بيان الصدر جاء لينهي انقسام أعضاء اللجنة حول اتخاذ خيار التصعيد من عدمه، بعد أن وصلته أخبار انقسامهم وانعكاساتها السلبية على المتظاهرين. وبعد التأكيد على السلمية، تحركت الجموع باتجاه جسر الجمهورية المؤدي إلى بوابة التشريع، إحدى بوابات المنطقة الخضراء الرئيسية، كان كل شيء يسير بهدوء ولم يتوقع أشد المتشائمين إن مجزرة على الجسر ستحصل بعد قليل.

اقرأ/ي أيضًا: البصرة تموج بالغضب مجددًا.. إنذار ببركان احتجاجات

وعلى دوي انفجار القنابل المسيلة للدموع، بدأ الشباب بإزالة الحواجز الموضوعة على الجسر، ثم اخترقوا الحاجز البشري الأول لقوات مكافحة الشغب، واندفع بضع آلاف نحو الجسر قابلهم مجاميع من "الملثمين" مجهزين ببنادق الكلاشنكوف وقاذفات القنابل الدخانية والصوتية، كان المتظاهرون أمام قوة مميتة رشقتهم بوابل من الرصاص والقنابل، كان المسلحون يستهدفون منطقتي الرأس والصدر برصاصهم، وحتى القنابل المسيلة سُدِّدتْ بقصد القتل.

سقط عدد من الشهداء واضعافهم من الجرحى في الموجة الأولى التي اقتحمت الجسر مما اضطرهم للتراجع إلى الساحة تحت رشقات الرصاص الحي، بعدها وجهت اللجنة من خلال مكبرات الصوت بالتوجه إلى جسر السنك للعبور إلى المنطقة الخضراء.  

كان المتظاهرون أمام قوّة مميتة تستهدف منطقتي الصدر والرأس حتى في القنابل المسيلة للدموع!

التف المتظاهرون سريعًا متجهين نحو طريقهم الجديد "جسر السنك" الذي لم يكن مفروشًا بالورود لاستقبالهم، كنت أشاهد بأم عيني كيف أمطرت المدافع الرشاشة على المتظاهرين زخات رصاص من عيار 14.5 ملم الخارق للدروع، في مشهد يتجلّى في إجرام السلطة وبلطجيتها، كنتُ أرى الشهداء يتساقطون واحدًا تلو الآخر، فهنا شاب وهناك شيخ كبير وامرأة وأطفال ومراسل صحفي وحتى الشرطة والجيش، الجميع لم يسلم من بطش "الملثمين" أصحاب البدلات السوداء الذين تمركزوا على الجسرين "الجمهورية والسنك" كانوا يطلقون النار على ايّ مُتحرك، حتى الطيور!

واصل المتظاهرون محاولة العبور نحو الخضراء لساعتين تقريبًا، رغم كل ذلك القتل والقمع المفرط، و لولا بيان الصدر التالي الذي أمر بالانسحاب فورًا للحفاظ على أرواح المحتجين لكنا أمام صورة من صور الإبادة الجماعيّة، فلا القتلة سيتوقفون عن القتل ولا المتظاهر يدرك استحالة العبور.  

مع غروب ذلك اليوم الدامي، كان المتظاهرون قد انسحبوا بالكامل بعد أن لاحقهم "الملثمون" في الأزقة والشوارع الفرعية، كانت الخيبة والشعور بالخذلان يُسيطران على مشاعر المتظاهرين، يروي لي أحد الأصدقاء أنه بعد أن انسحب بصورة عشوائيّة، خوفًا من الاعتقال، وجد نفسه في أحد شوارع الكرادة، يقول إنه قرر الدخول لاحد المقاهي التي يرتادها "المثقفون" ليلتقط أنفاسه قليلًا، لكنه صدم بحفل غنائي مع أمسية شعريّة حضرها كبار النخبة المثقفة، غير مهتمين بالمجزرة التي حصلت بالقرب منهم، يا لها من خيبة، أن ينشغل المثقف بالأماسي تاركًا "للغلابة" مهمة إزعاج السلطة.

في تلك الليلة سقطتْ عدّة صواريخ على المنطقة الخضراء في أجواء سادتها ردود الفعل الشعبية الغاضبة، شابتها بعض الدعوات الفردية والعفوية، لحمل السلاح للانتقام ممن أجرم بالمتظاهرين، ولإبعاد تهمة قصف المنطقة الخضراء عن المتظاهرين، اضطر زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، لكتابة بيان يطلبُ فيه من أنصاره ضبط النفس حيث ابتدأ بيانه بعبارة "ما هكذا عَلَّمناكُم و لا هكذا رَبَّيناكُم"، في إشارة إلى رفضه وعدم رضاه عن أي رد فعل سلبي يخرق "السلمية" مطالبًا إياهم العودة لحياتهم الطبيعيّة.

كنت أرى الشهداء يتساقطون واحدًا تلو الآخر وكان "الملثمون" لم يتوقفوا عن القتل حتى لو حدثت مجزرة

بعد بيان الصدر، أصدرت اللجنة المشرفة على الاحتجاج دعوة لتشييع رمزي لشهداء 11 شباط/ فبراير، وكان اليوم التالي هو الموعد. انطلقتْ جموع المُشيعين نحو ساحة التحرير حاملين معهم نعوش رمزية ملفوفة بالعلم العراقي، كانتْ النعوش تستقبل بالتحية العسكرية كلما مرت قرب نقطة للجيش أو الشرطة، تعبيرًا عن تعاطفهم مع المحتجين وشهدائهم.  كانت تلك التحيّة العسكريّة تدل على عمق العلاقة ومتانتها بين الشعب وبعض العاملين في المؤسسة العسكرية، ودلالة أخرى على أن قتلة الشباب المتظاهر بالأمس هم "مرتزقة" أحزاب السلطة وميليشياتها.

اقرأ/ي أيضًا: صراع العبادي-الصدر يُهدد التظاهرات الشعبية

في ذات اليوم، أطل علينا رئيس الحكومة "العبادي" بتصريحات حمّل فيها المتظاهرين مسؤوليّة ما حصل، هو موقف متوقع رغم غرابته، الرجل يريد دفع عار قتل الأبرياء عن نفسه، لكن غير المتوقع أن يُرسل مستشاره "وليد الحلي" في اليوم التالي إلى مجلس العزاء الذي أُقيم في ساحة التحرير حاملًا معه تعازي فخامة "الرئيس"!.

استشاط بعض الأصدقاء غضبًا حال رؤيتهم "الحلي"، اتفقوا على ضربه وطرده، وليتهم تمكنوا، لأن "أعضاء لجنة الاحتجاج" حالوا بين الحلي وغضب الشباب الذي أراد أن يضرب.

لم يجلس رئيس وأعضاء مجلس المفوضية التسعة على كراسيهم طويلًا، فقد سحبت منهم الثقة تحت قبة البرلمان وأطيح بهم بعد 74 يومًا من جريمة 11 شباط/ فبراير، اتفق بعدها فرقاء السياسة على استبدال "عليوي بعلّاوي" كما يقال في المثل العراقي، أو منا أمير ومنكم أمير، هي نفس السياقات التي كانت المفوضية السابقة إحدى مخرجاتها، بعد أن كنا نمني النفس بشخصيات مستقلّة تحافظ على أصواتنا من السرقة، وحتى قانون الانتخابات فقد استُبدل بآخر أتعس منه، رضخ الجميع للأمر الواقع بعد أن انبثق من رحم الاحتجاج تحالف انتخابي ضم التيار الصدري مع الحزب الشيوعي وبعض القوى المدنية، وعلق المحتجون آمالهم من جديد على "سائرون" في أن يفي بالوعود الانتخابيّة وأبرزها استبدال "سانت ليغو" بقانون آخر يُعطي فرصًا متساوية للجميع تحت أشراف مفوضيةٍ مستقلةٍ عن الميول والاتجاهات.  

الأمل على وفاء تحالف سائرون بدأ يتلاشى بعد دخولهم معمعة تشكيل "حكومة الجميع" 

ورغم أن "تحالف سائرون" حصد المرتبة الأولى في انتخابات أيار/ مايو 2018 النيابية، إلا أن بصيص الأمل المنعقد على وفاء تحالف سائرون بدأ يتلاشى بعد دخولهم مخاض معمعة تشكيل "حكومة الجميع" غير المكتملة إلى هذه اللحظة، ما عايشهُ المحتجون على مدار سنتين كان خيبة أمل كبيرة بالنسبة لهم وعزائهم الوحيد هو إضافة تراكم للتجربة التي بدأوا بها منذ 2011، ومن يدري قد يمرون بـ "11 شباط/ فبراير" آخر لاستكمال ما بدأوا به!. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عراق ما بعد الانتخابات.. حكومة "الجميع" اليتيمة!

"جمعة الحقوق" في العراق.. صرخة لتفكيك المحاصصة