25-أبريل-2020

من احتجاجات العراق (فيسبوك)

في نقاش مع بعض الأصدقاء حول إذا كانت هنالك إمكانية لوصف ما يحدث في العراق من حركة جماهيرية على أنها "ثورة" وهل تتلاءم الأحداث مع مفهوم "الثورة"؟ طرحت آراء مختلفة وكان لي رأيٌ في هذا الصدد. بدايةً، لا بد من محاولة التعريف بمفهوم الثورة، ولكن يجب أن نعرف إن طبيعة المفاهيم في العلوم الإنسانية خاضعة لتفسيرات مختلفة طبقًا لاختلاف وجهات النظر، والتفكير، والأيديولوجية، والتوجه، وحتى المشاعر والعواطف، التي يحملها الباحث.

الحركة الاحتجاجية في العراق تفتقد للقيادة والتنظيم ولكن هذا لا ينفي عنها صفة الثورية

يقول كرين برينتون إن من أشق الأمور على المرء في هذه الحياة أن يصف الناس أو الأنظمة دون أن يشعر بالميل إلى تغييرها، وهو أمر بلغت مشقته درجة صار معها أكثر الناس لا يدركون أن وصف الأشياء والرغبة في تغييرها شيئان منفصلان، وهنا يكمن صعوبة تحديد المفاهيم بدقة وحيادية في مجال العلوم الإنسانية. الثورة كلمة فضفاضة من الصعب وضع تعريف محدد لها، وعلى الرغم من أن كلمة ثورة تتضمن عدة معاني طبقًا لمجال استخدامها، إلا أن استخدامها الشائع أخذ يرادف أو يرتبط بكلمة "تغيير"، فالحديث عن الثورة السياسية أو الثورة الاجتماعية، أو الثورة الفكرية والثقافية والصناعية.. الخ، جميعها تقترن بضرورة إحداث التغيير الواضح والملموس.

اقرأ/ي أيضًا: رياح الحرية والقيم الراسخة.. هل مياهنا راكدة؟

أما من الناحية السياسية، فإن كلمة "ثورة" تعيد في أذهاننا صور الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر وما تلاها، والثورة الفرنسية وما أنتجته من تغييرات في القرن التاسع عشر والثورة الأمريكية والثورة الروسية، وقد ترتبط بالانقلابات والعنف الذي يقود إلى تغيير نظام سياسي أو جماعة سياسية بأخرى كما حدث في العراق بعد أحداث ١٩٥٨.

في هذا الإطار حاول الأستاذ الدكتور (عبد الرضا الطعان) في كتابه الثورة، أن يوضح مفهوم الثورة من خلال الاتجاهات الفكرية التي تناولت الموضوع بالبحث والتنظير، فأكد على أن كل اتجاه فكري حاول أن يعرف الثورة أو يحدد شكلها بالطريقة التي تتفق مع وجهة نظره، فهنالك من عرفها بدلالة المساهمة الشعبية، فالثورة لديهم تقترن بالمساهمة الشعبية التي تعمل على تهديم النظام القائم وتبني نظامًا جديدًا على أسس جديدة.

على هذا النحو يقول كاوتسكي إن الثورة التي تعتمد مساهمة كل الشعب سوف لن تكون ثورة وإنما إصلاحًا، فالثورة هي مشروع ثوري قائم على تغيير العلاقات الاجتماعية القائمة، فليس بالإمكان أن نتصور أن تغيير العلاقات الاجتماعية القائمة سيكون في مصلحة كل الشعب، فلا بد أن يوجد بين الشعب من سيتضرر من جراء تغيير العلاقات الاجتماعية القائمة، وبشكل خاص أولئك الذين ترتبط مصالحهم مع وجود واستمرار العلاقات الاجتماعية القائمة، وإلى هذا الرأي، ذهب جان بايشلر حيث أكد أنه لا توجد انتفاضة ثورية يقوم بها الشعب بصورة عامة ضد النخبة، فالشعب مكون بالأحرى من مجموعات اجتماعية مختلفة وذات مصالح متباينة.

أما الاتجاه الآخر، فقد ربط مفهوم الثورة بطبيعة العلاقات الاقتصادية داخل المجتمع، ولم يشترط المساهمة الشعبية، بل اكتفى بمجموعة أو أقلية تمتلك الوعي والكفاءة الثورية والتي تعمل على تحرير الشعب، وطبقًا لأصحاب هذا الرأي، فإن الثورة هي من عمل العناصر المتقدمة للطبقة الثورية وأن دور الشعب يتحدد أما بالإسناد اللاحق للثورة أو تهيئة المناخ اللازم لقيام الثورة.

وهنا نلتمس بوضوح اختلاف المفكرين في توصيف الثورة نفسها فمنهم من يضيف عناصرًا، و ينفي عن أي حركة صفة الثورة إن لم تتوافر فيها بعض العناصر التي حددها، ومنهم من يعتقد أنها فئوية، ومنهم من يعتقد أنها شعبية.. الخ وهناك من الباحثين في المجال السياسي من أجمع على عدة نقاط تمثل الحركة التي نستطيع تسميتها "ثورة"، أهمها: القيادة، التنظيم، الأهداف، المشروع، العنف، التغيير. وبغض النظر عن الأعداد التي تساهم في الحركة، فإن افتقارها إلى أحد هذه العناصر ينفي عنها صفة الثورة حسب وجهة النظر التي عالجت موضوع الثورة لتصبح انتفاضة أو احتجاج أو مظاهرة.

من وجهة نظري؛ إن التغييرات التي تطال العالم في كل جوانبه وكسر الحدود الذي حدث بين الدول والثقافات والحضارات والشعوب، ممكن أن تنسحب إلى إطار المفاهيم لتُنتَج لنا مفاهيم ذات طبيعة جديدة تختلف عن سابقاتها في سياق الشروط، وقد تلتقي معها في بعض النقاط، فظروف الحركات الجماهيرية ووسائلها هي أيضًا في تغيير وتبدل، وكل ما ذكرته سابقًا عن محاولات المفكرين والكتاب لتحديد المفهوم بقي في هذه الحدود المختلف عليها، وإذا طبقنا أحداث وظروف الاحتجاجات في العراق، سنجد أن هنالك عناصر تنطبق على بعض ما فسروه، وأخرى لا تنطبق، فهل هذا يعني أنها تندرج ضمن مفهوم الثورة؟

الحركة الاحتجاجية في العراق تفتقد للقيادة والتنظيم والعنف ولكن هذا لا ينفي عنها صفة الثورية، لأنها وضعت القواعد الجديدة التي تختلف عن سابقاتها، وهي أن تكون ثورة خارج السياقات والإطر التقليدية التي يضعها الباحثون يسعى من خلالها الجماهير إلى التغيير من خلال السبل الناعمة والسلمية، وقد لا يحدث التغيير مع هذه الوسائل بصورة سريعة وواضحة، ولكنه تغيير تدريجي عن طريق حركات احتجاجية ثورية متتابعة وبقواعد غير تقليدية. وهنا أستذكر كتاب بعنوان "الثورة بلا قيادات" للكاتب كارن روس يستعرض فيه هذه الفكرة، فيتحدث عن تغيير قواعد الجماهير في التعبير عن رفضها وآرائها، فلا تحتاج الجماهير للقيادة والعنف من أجل التغيير وإحداث ثورة، بل هم قادرون على ذلك من خلال المبادئ، حيث تلعب الدور الأساسي في عمليات التغيير، فهي توفر مسار فعل أكثر قوة نحو التغيير فالحركات الجماهيرية ذات الفاعلية الفردية بصيغتها الجديدة القائمة على السلمية والتعاونية ستحدث فرقًا غير متوقع والفرد هو المحور المحرك داخل هذه الموجة.

التزام الفرد بمبادئ التغيير لن تحدث ثورة كوكبية بالطبع، ولكن إضفاء صفة الثورية على حياته ممكن أن يجعل من الأفعال الصادرة منه حافزًا للاخرين

الأفراد داخل الجماعة لهم تأثير مهم في عملية التغيير والتعبير الثوري، فالتزام الفرد بمبادئ التغيير لن تحدث ثورة كوكبية بالطبع، ولكن إضفاء صفة الثورية على حياته ممكن أن يجعل من الأفعال الصادرة منه حافزًا للاخرين، لتكون "ثورة بلا قيادة"، ثورة ذات أسلوب جديد ومختلف، لكنها قادرة على قلب الموازين والتأثير وإحداث التغيير المطلوب.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بعد فشل التوافق وتشويه التكنوقراط.. نحو انقسام صحي

في انتظار السياسة