31-يناير-2023
بي بي سي

دخلت منصات التواصل في كل تفاصيل حياتنا (فيسبوك)

"الأعزاء المستمعون.. هنا لندن"، لم تعد هناك. أقفلت الإذاعة العريقة أبوابها وعلّقت مكبراتها الصوتية وأجهزتها، وقد تتجه لبيعها في مزاد علنيّ تتهافت عليه رؤوس الأموال، وأغنياء العالم كي يستعرضوه في قصورهم أو فنادقهم الفخمة. نعم، هكذا ببساطة تباع ذاكرة الشعوب ويضحى بالإرث الثقافي، بجرة قلم واحدة، وبقرار يبدو أنه مدروس جيدًا. 

لن يكون مفاجئًا بالنسبة للعالم أن تعلن هيئة الإذاعة البريطانية إغلاق قنواتها التفلزيونية أيضًا

مضت إذًا إذاعة لندن في أثير آخر بعد أن أدركت هيئة الإذاعة البريطانية، أن هذه الوسيلة "لم تعد تضيف شيئًا"، وربما لم تعد متابعةً كما كانت في العقود الماضية، فجمهورها الذي يبكي عليها اليوم ويذرف الدموع، ويعلنها حدادًا لا نهاية له، هو نفسه من تخلى عن سماع أصواتها ونشرات أخبارها وبرامجها، وهرول راكضًا إلى السوشيال ميديا.. هذا الفضاء المتاح الذي أصبح منبرًا للجميع وإذاعة لكل من يرغب أن يرسل صوته إلى العالم، فببساطة يستطيع أي عاشق للإذاعة أو محب للتعليق الصوتي أن يؤسس "بودكاست" خاص فيه، ويدعو أصدقاءه ومتابعيه لسماعه، ووضع اللايكات وكتابة التعليقات وعمل المشاركات للوصول إلى أكبر قدر من الناس حول العالم وتحقيق مشاهدات قياسية.

نعم، إنه عالم الرقمنة الذي تنامى على حساب حياتنا الحقيقية وواقعنا المعاش الذي تحول إلى أزرار وحروف الكترونية، حتى نسينا القلم والورقة والكتاب وفن الخط الجميل.. من يعد مهتمًا أصلًا؟ وما الفائدة منه؟! حقيقة؛ بات العالم الرقمي يعتاش على ذاكرتنا وذكائنا ومهاراتنا، وعليه، فإنّ "فيسبوك" و"تويتر" و"انستغرام" و"كلوب هاوس" وغيرها من المنصات هي من أغلقت وأطاحت بواحدة من أعتق وأعرق وأصدق مصادر الأخبار، وليس مستغربًا أن تطيح بغيرها، ولن يكون مفاجئًا بالنسبة للعالم أن تعلن هيئة الإذاعة البريطانية إغلاق قنواتها التفلزيونية أيضًا.

هكذا، دخلت منصات التواصل الاجتماعي الرقمي في كل تفاصيل حياتنا حتى غزت مشاعرنا وأحلامنا وفقدنا شغف التواصل الحقيقي الملموس، واتجهنا إلى تواصل افتراضي يحقق لنا الرضا والربح المادي فـBBC  نفسها، أعلنت أن إغلاق عدد من محطاتها الإذاعية والاستغناء عن مئات الوظائف يأتي بغرض توفير المدخرات اللازمة من أجل أن تكون شركة رائدة في عالم الرقمية.

 لا شك أن العالم يتغيّر، هذه حقيقة يجب أن يتقبلها كل نوستالجي مسافر بذاكرته إلى ماضٍ اندثر تحت مسمى الحداثة والتطور ومواكبة العصر، فكل المؤشرات حول العالم ترسل صورًا لما ستكون عليه البشرية في السنوات القادمة: العالم يتجه إلى المادية البحتة.

وأخيرًا، كوني أعمل مقدمة أخبار وبرامج في محطة تلفزيونية، بدأت ألمس على رأسي، إذ إنني أعلم علم اليقين أن الدور سيأتي علينا، أقصد على المحطات والقنوات الفضائية.. لذلك لا بد من مواكبة العصر من أجل الاستمرارية، تمامًا كما فعلت بي بي سي.