06-يونيو-2016

تظاهرة فلسطينية ضد الحرب الأمريكية على العراق 2003/القدس المًحتلة (أ.ف.ب)

"إن الوحدةَ الوطنية في كلّ قطرٍ عربيّ، لبنةٌ في بناء وحدتنا الشاملة الكبرى. وإن فلسطين لا تعيدها الأقوال، ولا تنفعها الخُطَب". لم يكن عبد الرحمن عارف، الرئيس العراقيّ الأسبق، على درايةٍ بأن شعاره هذا سيقبَع محنّطًا على الرّف خمسين سنةٍ دون أن يشتريه أحدٌ أو يبخسه، ربما لم يخطر بباله حينها بأن هنالك فجوة كبيرة ستحول دون الوطن الذي في الأمنيات وذلك الذي على الأرض، فجوة لا تملؤها إلا الشعارت الرّنانة. تلك الشعارات التي تنمو وتكبر كلّما صغرت الأوطان وقلّ شأن الأمة.

أعلنت الداخليّة العراقية أعداد الانتحاريين العرب الذين قضوا في العراق، وكان للفلسطينيين النصيب الأكبر

أعلنت الداخليّة العراقية -بغضّ النظر عن فساد مسؤوليها- قائمةً بأعداد الانتحاريين العرب الذين قضوا أشلاء متناثرةً على صفحات شوارع العراق. وقد كان للفلسطينيين النصيب الأكبر بواقع 1201 انتحاري. ساقَني هذا إلى مواقع الصحف والأخبار العراقية بحثًا عن ردات فعلٍ تجاه الإعلان الذي سبق، وقد هالني ما قرأتُ من مقالاتٍ تحريضيّةٍ وطائفيّةٍ محشوَّة بالجهل وقلة الأدب والمنطق. ربما لا أعرف من أين استلم هؤلاء الصحفيّون شهاداتهم ولكنني أعلم حتمًا أنهم لم يستلموا معها حصّتهم من الثقافة الكافية لوزنِ أمورٍ كبيرة كهذه.

اقرأ/ي أيضًا: لمَ علينا الرحيل من لبنان؟

لا يخفى على مبصرٍ بأن الوجود الفلسطينيّ في العراق بدأ يتّضح منذ العام 1948، حين رحل الآلاف من الفلسطينيين المشرّدين مع مركبات الجيش العراقيّ العائدةِ إلى العراق، حيث تم إيواؤهم آنذاك في ملاجئ بأمر من الملكة عالية زوجة الملك غازي. وقد بدأت أعدادهم بالتزايد في العقود التالية حتى بلغت ذروتها في نهاية الألفية الماضية بواقع 35 ألف فلسطيني في العراق. هذا وقد هاجر 90% منهم، ولم يبق سوى ثلاثة آلاف فلسطيني بعد غزو العراق الذي تعرض خلاله الفلسطينيون للاعتداءات والاضطهاد على يد ميليشيات مناهضة للبعث، بزعم أن الفلسطينيين هم أحبة صدّام المدلّلين.

هذا ولم يشهد العراق طوال العقود المنصرمة منذ النكبة وحتى الغزو الأمريكي أي اعتداء إرهابيّ مؤدلج من الفلسطينيين ضد العراق وأهله. وكالعادة يا سادة، لا يُحسِنُ العربيُّ إلى العربيِّ في السّياسة مقدارَ أنملةٍ إلا لاحقه بها مِنّةً وتفضُّلًا، وغرسها كمسمارِ جُحا في كلّ واقعةٍ أمكنه غرسه فيها. فبدأ هؤلاء الصحفيّون المنَّ على الفلسطينيين إيواءهم وتشغيلهم ونصرتهم -المنهزمة- في معارك الساحل الفلسطيني مطلع النكبة، متهمين الفلسطينيين بالغدر باليد التي ساعدتهم وقدمت لهم النصرة والانتشال وهم الذين لا يستحقون.

اقرأ/ي أيضًا: يد الله وقبلة الشيطان

وجد السّفاحون ضالتهم في حشود الحاقدين والمغفّلين والشّباب اليائس القاطنِ في أحياء الفقر

لقد بدأت هذه العمليات الإرهابية بالظهور على الساحة كنتيجة قاسيةٍ ووحشيّة للغزو والانفلات الأمني، وجعل العراق ساحة تصفية حسابات لكثيرٍ من الأطراف المتناحرة. وقد وجد السّفاحون ضالتهم في حشود الحاقدين والمغفّلين والشّباب اليائس القاطنِ في أحياء الفقر ومخيّمات الذّل وزوايا التهميش. فبدؤوا ببثّ كل وسيلةٍ فيهم لحثّهم على الالتحاق بصفوف الجُند المنصور في العراق. ولأن الجنّةَ أقربُ النّعيم إلى تلك الفئة من سكان الأرض، ولأن الموت أقربُ الأبواب إلى الجنّة، ولأن الانتحار آخر دواءٍ لعلاج اليأس، ما كان من هؤلاء الشّباب إلا القيام بهذه العمليّات الانتحاريّة آخذين إلى السّماء معهم طوابيرَ من القتلى الأبرياء.

إن الانتحارَ ليس إيديولوجيا بقدرِ ما هو يأس، وإن الإرهابَ ليس ردّة فعلٍ بقدرِ ما هو طبيعة بشريّة قابلةٌ للإنماء والإكساب، وإن التطرّف ليس حكرًا على أحد. فلا فلسطينُ مزرعةٌ لتفريخ الإرهابيين، ولا العراقُ مغناطيسٌ للسّفاحين، كل ما في الأمر أن الانتحاريين بحاقديهم ويائسيهم وجهلتهم على حدٍّ سواء مع المواطنين والصّحفيين الذين تنطلي عليهم سطحيّة المآخذ، فهم جميعًا ضحايا مغفّلين تقتات عليهم الصراعات المؤدلجة.

اقرأ/ي أيضًا:

من جعل الغش ثقافة عامة في الجزائر؟

مصر في زمن التوك توك