06-أكتوبر-2021

مقارنة بين استفتاء صدام حسين والانتخابات المبكرة (Getty)

مع اقتراب يوم الانتخابات البرلمانية خرجت علينا الرئاسات الثلاث وبعض القادة السياسيين بتصريحات صحفية، تحثّ على المشاركة بالانتخابات، ومن ذلك رسالة وجّهها رئيس الجمهورية برهم صالح في لقاء تلفزيوني إلى المقاطعين للانتخابات ناصحًا إياهم بأن "الانتخابات هي الخيار الأفضل".

 التغيير السياسي من خلال الانتخابات هو الخيار الأكثر واقعية والأقل كلفة، ولكن هذا يتحقّق حين يثق المواطنون بالنظام السياسي وأنه فعّال

الغريب بالأمر أن هذه التصريحات توحي بأن المقاطعين لديهم خيارات أخرى غير الانتخابات من أجل التغيير السياسي، وكأنهم جماعة مسلّحة، أو ساعين لتنفيذ انقلاب عسكري بدلاً من الذهاب إلى صناديق الاقتراع. الأمر الذي يذكّر بخطابات مشابهة في 2004 و2005 كان يوجّهها أقطاب النظام السياسي آنذاك إلى الجماعات السنيّة المتمرّدة وإلى جيش المهدي لإلقاء السلاح والمشاركة في العملية السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: ساعات على نهاية عمر البرلمان العراقي.. دورة "متورطة" بدماء المتظاهرين

بالتأكيد التغيير السياسي من خلال الانتخابات هو الخيار الأكثر واقعية والأقل كلفة، ولكن هذا يتحقّق حين يثق المواطنون بالنظام السياسي وأنه فعّال، وتستطيع ماكنته أن تدور بكفاءة لتحوّل الإرادة الشعبية الى محركات للتغير من داخل النظام السياسي. وهذه الثقة قد لا تكون دائمًا مصنوعة من الحقائق، ولربما لم تكن كذلك أبدًا، وإنما مزيجًا من حقائق وأوهام يجري حبكها بعناية، من خلال وسائل التأثير الجماهيري، والشعور البراغماتي عند أغلبية المواطنين المهتمين بالتغيير بأنه لا توجد وسيلة أخرى أكثر كفاءة. وهذه الحبكة هي التي تغذّي "الإيهام" الضروري للناس من القواعد الشعبية المقادة بأنهم يملكون مصيرهم وقدرهم وأنهم يستطيعون تحديد مستقبلهم.

لكننا نعرف بأن القيادة وصناعة الطريق باتجاه المستقبل الزاهر أو الكارثي هو قرار بيد النخّبة، التي تستعمل التفويض الجماهيري كغطاء شرعي كي تفعل النخبة ما بدا لها، لا ما يبدو للجماهير!

في البلدان المتحضّرة القادرة على إدارة "الإيهام" الشعبي بكفاءة، فإن النخبة تنفّذ جزءًا كبيرًا من ذلك الذي تتوقّعه الجماهير منها، وبهذا يستمر الإيهام عند الجماهير بأنها قادرة على الفعل التاريخي المؤثر. وهذا ما يوحي بنوع من التفاعل بين النخبة والجمهور العام. أما في البلدان المتخلّفة فإن النخبة غالبًا ما تقوم بخيانة ثقة الجماهير. وقد تلجأ لاحقًا لوسائل التحشيد الخطابي البلاغي والإعلامي لإعادة ترميم هذه الثقة، ثم تفشل، ثم تلجأ لترميم صورتها دعائيًا وإعلاميًا ثم تفشل، وهكذا حتى تتعطّل لعبة كسر الثقة وترميمها لاحقاً فلا تغدو قادرة على إدامة التفويض الشعبي للنخبة بكفاءة.

كم هو غريب ومثير هذا التكرار في حوادث التاريخ، فغالبًا ما يلجأ النظام السياسي الذي خسر ثقة الجماهير إلى التزوير والإرهاب والقمع للحصول على تفويض شكلي.

عشية الاستفتاء الأخير على الرئاسة في نظام صدام حسين والذي جرى في تشرين الأول 2002 كان قانون "حرية العراق" قد أقرّ في الكونغرس الأمريكي، وكل الحركة الدبلوماسية والاستخبارية العراقية في الكواليس كانت توصل معلومات مؤكدة للنظام العراقي في ذلك الوقت بأن هناك تصميمًا أمريكيًا مؤكدًا للإطاحة به.

ومع ذلك فإن النظام مضى في إجراء استفتاء ثانٍ على الرئاسة، (الأول جرى في 15 تشرين الأول 1995) وكانت النتيجة استنائية وخارقة بكلّ المقاييس، فإذا كان صدام حسين قد حصل في استفتاء 1995 على ما يزيد قليلاً على 99% من أصوات الناخبين، فإنه في استفتاء 2002 حصل على 100%، كاملة غير منقوصة، لتُجدّد له ولاية رئاسية جديدة من سبع سنوات تنتهي في تشرين الأول 2009.

شخصيًا لم أشارك في الاستفتاء لأنني كنت في خدمة الاحتياط الثانية في الجيش العراقي، وكانت هناك رياح جديدة تهبّ على الجميع ويستشعرونها، فلم يكن أحدًا يركض وراء الناس كي يذهبوا للتصويت. حتى الضباط في المعسكر كانوا يتحدّثون بحرية عن انهيار كلّ شيء. وفي يوم العرضات الصباحية الأخير قبل تسريحنا، هنأنا الضابط المسؤول على تسريحنا، فهتف أحد الجنود: نلتقي بك سيدي في الاحتياط الثالثة إن شاء الله. فردّ الضابط مبتسمًا: لن تكون هناك احتياط ثالثة. فضحك الجميع، لأن الجميع كان يسمع ليلاً من الإذاعات الدولية أنباءً عن تسارع الخطوات باتجاه إسقاط النظام.

كان التصويت بـ100% لتفويض صدام بالحكم لسبع سنوات قادمة أمرًا تافهًا، لأن الناس تعرف تمامًا أنها غير قادرة باستخدام صناديق الاقتراع على التأثير في نظام الحكم أو حتى الحلم بتغييره. ولو فرضنا أن انتخابات عادلة قد جرت خارج سلطة الإرهاب والتخويف والقمع الصدامي فإن النظام سيعتمد على زبائنه فقط، من المنتفعين بعطايا النظام، وهؤلاء نسبتهم قليلة لا تتعدى ربما الـ 15 بالمئة من مجموع من يحقّ لهم التصويت.

هذه النسبة التقديرية تمثّل برأيي حجمًا تقريبيًا لزبائن النظام الحالي أيضًا، الذي يريد من الناس أن تغيّر من خلال الانتخابات، متجاهلاً أنه كسر الإيهام الضروري في أي لعبة ديمقراطية، بالمجازر التي نفّذها بحقّ المدنيين العزّل، ثم ألقى بالسجّادة على الدماء التي صبغت المشهد العراقي ليطلب من الناس أن تمشي عليها باتجاه صناديق الاقتراع.

يريد النظام السياسي من الناس أن تغيّر من خلال الانتخابات متجاهلًا أنه كسر الإيهام الضروري في أي لعبة ديمقراطية بالمجازر التي نفّذها بحقّ المدنيين العزّل

على النظام السياسي الذي يعيد اليوم تدوير نفسه على طريقة الاستفتاء الصدّامي، أن يعيد ترميم الثقة به من خلال رفع السجّادة عن الدماء التي ما زالت طازجة وساخنة، ومواجهة مسؤولياته الاخلاقية والقانونية تجاه ما ارتكبه من جرائم. وإلا فالمقاطعة هي الخيار الأخلاقي الوحيد في مواجهة هذه المهزلة.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مقاطعة الانتخابات.. دفاعُ عن جوهر الديمقراطية

جدل المقاطعين والمشاركين.. الثقة العمياء