08-سبتمبر-2020

الأنظمة الديكتاتورية تستخدم الجانب الثاني من القوة الناعمة

الاستبداد في كل أشكاله وألوانه يمكن اعتباره كائنًا أعمىً يختلف دائمًا عن حركة التاريخ والحضارة والحياة، يقف بالضبط عكس حرية الإنسان ويجعله جزء من نظام التفاهة والجهل والتخلف.

"الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع" هكذا قال عبد الرحمن الكواكبي في كتابه المعنون: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، وقلب الحقائق في الأذهان هو كل مانراه اليوم في بلداننا العربية التي تغص بالاستبداد بمختلف أشكاله.

لماذا تحارب أنظمة الاستبداد والطغيان كل جميل ومبدع وتدعم في الوقت ذاته التافه القبيح؟

حفر كتاب عبد الرحمن عميقًا في جسد هذا المفهوم، ووصل لنقاط لم يسبقه إليها أحد، في كتابه، تشترك أناة القط ووثبة الأسد في الانقضاض على كل سلوكيات الطاغية التي يريد تمريرها للشعوب. مفكر مهموم، تتجلى همومه في وصف كل صغيرة وكبيرة تخرج من السلطات المريضة/ المستبدة.

تحدث الكواكبي عن السبل والوسائل التي يبحث عنها المستبد للسيطرة، وأقرب الوسائل وأهمها إليه، الإعلام، فهو يدرك أنه وسيلة السيطرة على الشعوب، سواء تقدمت هذه الشعوب أو تخلفت، ولكن كلما كانت هذه الشعوب تعاني من الجهل والأمية الدينية والثقافية، وفي عصرنا الحالي، استطاع الطغاة أن يتحكم بشعوبهم ويسوقوها كالقطعان عن طريق شبكات من القنوات الفضائية ومنصات الشبكة الرقمية.

أثناء حديثه عن الطغاة، استشهد عبد الرحمن في كتابه بجملة للفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس، يصف فيها شخصية الطاغية، حيث قال أرسطو: إن الغاية النهائية للطاغية كي يحتفظ بعرشه هي: تدمير روح المواطنين وجعلهم عاجزين عن فعل أي شيء إيجابي، وفي سبيل تحقيق ذلك فهو يلجأ لتدمير الطبقة المثقفة، التي قد تشكل خطرًا على حكمه، بمختلف الوسائل.

مبدعون قتلتهم السلطة

وبالرجوع في آلة الزمن، نجد على طول التاريخ كمًا هائلاً من المفكرين والمبدعين قد سُجنوا وأعدموا وقُمعوا وهُجروا من أوطانهم تحت ذرائع كثيرة، منها: الكفر، الحرام، قلة الذوق، خيانة الوطن، خدش الحياء، كشف المستور.. إلخ من الذرائع التي تسكت الأفواه وتفصل الرؤوس عن أجسادها. ومعظم حجج القمع هذه تعبر عن رد فعل واحد: خروج هذا الفرد عن المألوف! وبدلاً من دعم هؤلاء المبدعين نجد السلطة تستثمر في التفاهة والقبح.

ويأتي هنا دور السؤال الأهم: لماذا تحارب أنظمة الاستبداد والطغيان كل جميل ومبدع وتدعم في الوقت ذاته التافه القبيح؟ في الوقت الذي تمتلك فيه أنظمة الاستبداد الكثير من الأموال والموارد، فهي مطالبة بمحتوى يليق بأموالها ومورادها، لكننا نجد منصاتها تفتقر لأية قيمة من قيم الجمال والإبداع والأثر الإيجابي للجمهور، فهل هذا الأمر مدروس أم تحصيل حاصل لعصر الاستهلاك الذي نعيش فيه؟

تمر إجابة هذا السؤال بأكبر دولتين في العالم من ناحية الجغرافية: روسيا وكندا.

وتبدأ القصة من كندا، حيث سافر الفنان والمؤلف الموسيقي الكندي Glenn Gould گلِن گولد (1932 - 1982)، سنة 1957 إلى روسيا كي يعزف مع فرقته هناك، عزف في موسكو في ليلة شتائية باردة، وأنهى حفله بكل سلام ثم عاد إلى بلده.

وبعد مرور أعوام وأعوام، وتحديدًا في عام 2003 (بعد أكثر من 50 عامًا على إقامة الحفلة) عمل المخرج الروسي جوزيف فيگنبيرغ وثائقي عن هذه الرحلة تحت اسم: Glenn Gould: The Russian Journey، تكلم هذا الوثائقي عن رحلة لعازف في حفلة غيرت من تفكير الكثير من الروس!

تحدث الوثائقي عن عدد الجمهور العملاق الذي حضر الحفل، وكيف كانت أحاديث الجمهور وتعليقاته عن الحفلة:

- ماهذه الموسيقى الملائكية التي لم نسمعها من قبل؟

- هل يُعقل أن تحتوي الثقافة الغربية كل هذا الجمال؟ وإذا كانت كذلك، لماذا لانعرف شيئًا عنها؟

لكن أحد الحاضرين في الحفل ذهب بعيدًا ليؤسس في تعليقه رؤية سياسية لم تك متداولة آنذاك، حين قال: معزوفات گلِن گولد هي بداية هدم جدار برلين!

هل يمكن للأبداع ان يهدم الجدران فعلاً؟

عندما سُئل الفيلسوف الصيني "لاو تسزي" عن معنى القوة، أجاب بجملة لا تخلو من التأمل الذي ينعكس على واقعنا في الحياة: "لا يوجد في الكون مادة أنعم وأضعف من الماء، و بالرغم من ذلك فهو قادر على تفتيت أكثر المواد صلابة"!

جملةٌ في عمق الفلسفة، ما هو مدى اختبارها العلمي؟ وكيف يمكن لنا تجريبها على أرض الواقع؟

المفكر والباحث السياسي الأمريكي جوزيف سامويل ناي، أحد أكثر الباحثين الذين اختبروا جملة الفيلسوف الصيني "لاو تسزي"، ومكمن اختباره للإجابة تلخص في كتابه المعروف على نطاق العالم: القوة الناعمة - سبل نجاح السياسات الدولية.

حسب كتاب الأستاذ ناي، يتضح أن التغيير العالمي بُعيد الحرب العالمية الثانية اتجه في طريق ثاني بعيد عن القوة الصلبة/العسكرية، وأن هذا التغيير يشق طريقه للجماهير بواسطة الفن والجمال والإبهار والمنافسة بكل ماهو نادر ومبدع، أو المنافسة بكل ماهو رديء وسيء وقبيح وتافه.

"الأنظمة الديكتاتورية سواء كانت دينية أو عسكرية أو حكم عوائل (أوليغارشية)، مهمتها الأساسية منع أية وسيلة من وسائل الإبداع في داخل شعوبها، حتى لو كان هذا الإبداع لا يهاجمها أو ينتقدها، لأن مشكلة هذه الأنظمة ليس بالمحتوى، وإنما بفكرة الإبداع أو التفكير خارج نطاق المألوف!

هذه الأنظمة تستخدم الجانب الثاني من القوة الناعمة، جانب التجهيل. حيث إن ألقينا الضوء على أي نظام في منطقتنا العربية، المحكوم بأنظمة دينية (السعودية) عسكرية (مصر) أوليغارشية (العراق)، نجد أن هناك تقاربًا في دعم هذه الأنظمة للثقافات الرديئة والفنون الهابطة والأدب السيء، ونادرًا ما نجد في هذه البلدان القيم التي ترزع في داخلنا الدهشة التي نجدها في الأنظمة الديمقراطية المنتشرة في أصقاع العالم.

الأنظمة الديكتاتورية تستخدم الجانب الثاني من القوة الناعمة، جانب التجهيل

خوف هذه الأنظمة من الإبداع سببه معرفتهم بقوة الإبداع وتأثير وصوله للناس، وحسب الأستاذ ناي "في اللحظة التي يرى فيها الأنسان أي جديد أو مختلف، سيدرك أن هناك شيئًا أكبر بكثير من عالمه المتمثل بعائلته ومنطقته ومذهبة ودينه ومجتمعه، عالم كبير لا يعرف عنه أي شيء، عالم ممتع يسبب نوعًا جديدًا من السعادة و النشوة الفكرية، فيبدأ بالتساؤل عن مداخل هذا العالم، وينتهي بإدراك مأساوية العالم الواقعي الذي يسكنه، فيفكر بالتمرد والتغيير، وهذا ما لا تريده الأنظمة المستبدة، الأنظمة الدينية والعسكرية وأنظمة العوائل الاقتصادية، وخوفهم من الإبداع يأكد مرارًا وتكرارًا هشاشة واقعهم".

هذه أهم الأسباب التي تجيب عن تساؤلات يطرحها الفرد العربي تخص انتشار وصعود الفن الهابط والشعر الهابط، وأفول نجم الموسيقى الساحرة والفن الراقي والشعر البديع والذوق الرفيع في البلدان العربية، هذا مايريده حكام الأنظمة العربية، إبقاء شعوبهم في دوامات من التجهيل تصوّب عليهم من الشعر أردءه ومن الغناء أسخفه ومن الثقافات أكثرها رجعية وتخلفًا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

في التضامن السياسي

الديمقراطية: خرافات وحقائق