30-نوفمبر-2019

كانت هناك مصاعب كثيرة للمتظاهرين الذين أرادوا أن يعتصموا في ساحة التحرير (Getty)

ألترا عراق ـ فريق التحرير 

بعد شهر من استمرار الاعتصام وثبات دعائمه في العاصمة بغداد وعدد من محافظات وسط وجنوب العراق يستذكر أصحاب الخيام المعتصمة الأيام الأولى لهم، والمصاعب التي واجهتم حتى تدفقت فيما بعد عشرات الخيام نحو ساحة التحرير ليشتد عودهم الطري، ثم تتضاعف الأعداد وتبدأ حركة الاحتجاج بالامتداد الأفقي نحو المناطق المجاورة، بالإضافة إلى تنظيم العمل ودخول شرائح ساندة أخرى.

مصاعب وتحديات كثيرة واجهت الشباب الذي أراد أن يعتصم في يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر لكن التحشيد والتذكير بالشباب الذين قتلهم القنّاص كان كفيلًا بإعادة الزخم 

لم يستطع علاء أن يلجم جماح دموعه قبيل غروب شمس يوم ٢٥ تشرين الأول/أكتوبر، سحابة سوداء كانت تخيم على ساحة التحرير جراء دخان الغاز المسيل للدموع، حيث بدأت الأعداد تتناقص إثر التعب والإرهاق والإيغال في القمع من قبل القوات الأمنية، بالإضافة إلى عدم وجود أي دعم لوجستي، إذ أن المحتجين لم يأكلوا منذ الصباح واعتمدوا على المحال التجارية والمطاعم القليلة في الأزقة البعيدة عن الساحة. 

اقرأ/ي أيضًا: تزوير شهادات وفاة ضحايا الاحتجاجات.. السلطة تستعين بـ"الملائكة"!

أضاف علاء وهو محتج منذ الجولة الأولى مطلع تشرين الأول/أكتوبر في حديث لـ "ألترا عراق"، " كنت أردد كل شيء، تعبت الناس وسترجع إلى منازلها، فيما وقف رجل كهل في وسط الشارع، وأخذ يعاتب الجموع المغادرة من الساحة "وين الصبر، وين الثار تعوفون دم أخوتكم"، كان معظمهم يتعذر بالتعب والجوع مؤكدًا العودة بعد الراحة، فيما كان العجوز يواصل عتبه وخذلانهم للدماء، حيث عاد عدد منهم نحو الساحة".

لم يبق في الساحة سوى المئات، كان بعضهم يحمل الأغطية المبللة لمواجهة السقوط المزدوج لقنابل الغاز المسيل للدموع، فيما يحمل آخرون قناني "البيبسي كولا"، لغسل العيون المتحسسة من الغاز، بحسب علاء، والذي لم ينكر خوفه حينها من تكرار سيناريو الجولة الأولى، حين استخدمت القوات الأمنية الرصاص الحي بالإضافة إلى القنّاص المجهول، والذي أرجع الشباب المتظاهر إلى مناطق بعيدة عن التحرير.

خيمة الليلة الأولى

المتظاهرون عملوا منذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر، على الاستمرار بسياق الاحتجاج السلمي والحراك ضمن القوانين والأطر الدستورية، لتلافي أي تخوين أو قمع مشرعن، بحسب الناشط أكرم عذاب، والذي يقول "لم يكن أمامنا من خيار سوى بدء الاعتصام، حيث كان رهاننا على التضامن الشعبي في التحشيد والمؤازرة في مضاعفة عدد الخيام"، مبيًنا "قلت للجميع سنعتصم وسأحضر 10 خيام، هذا منح الجميع شعورًا بالأمان ودفع على الصمود، فيما كنت لحظتها لم أؤمن خيمة واحدة، وبعد عدة اتصالات وذهابي لأكثر من منطقة نجحت في الحصول على خيمة ونصبتها وسط ساحة التحرير".

أضاف أكرم في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "الليلة الأولى كانت قاسية، قنابل الغاز المسيل للدموع تصل إلى نقاط بعيدة من الساحة، وقوات مكافحة الشغب في مقدمة جسر الجمهورية، وحائط الصد منخفض ويتيح للقوات التصويب بدقة على المحتجين، فيما يتولى عدد من المتظاهرين معالجة القنابل من خلال إخمادها بالأغطية المبللة ومن ثم رميها في النفق، حيث يستقبلها الشباب لإطفائها".

الليلة الأولى من الاعتصام كانت قاسية، قنابل الغاز المسيل للدموع تصل إلى نقاط بعيدة من الساحة، وقوات مكافحة الشغب في مقدمة جسر الجمهورية

تابع عذاب "صباح اليوم التالي وصلت سيارات من الأهالي محملة بالطعام والشراب، بالإضافة إلى نصب خيام أخرى".

شائعات الاقتحام

تظافرت مجموعة عوامل على منع القوات الأمنية والأطراف الساندة من اقتحام ساحة التحرير، ومنها، المرجعية الدينية ودور زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ودعمه لساحة الاحتجاجات، فيما تنتشر يوميًا بعد منتصف الليل خلال الأسبوع الأول شائعات الاقتحام للساحة، والتي انتهت بعد الأسبوع الأول، بالإضافة إلى شائعات أخذت منصات الإعلام الحكومي على تسويقها بطرق عديدة، فضلًا عن التلاعب بإحصائيات الضحايا.

اقرأ/ي أيضًا: هل شاركت ألوية الحشد الشعبي مع "الشغب" بقمع المتظاهرين؟

يصف ياسر تلك الليالي بـ"بالمرعبة"، مبينًا أن "المحتجين كان يزداد ثباتهم على البقاء والمواجهة عند تداول أية إشاعة عن الاقتحام حيث يبقون إلى شروق الشمس، ويناقشون بمنطقية إمكانية الشروع بتنفيذ هذا الخيار، خاصة مع ازدياد الأعداد وتحولها إلى المليونية".

أضاف ياسر في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "الشائعات كانت تروج من خلال ضباط ومنتسبين يسربونها إلى أصدقائهم ومعارفهم على شكل تحذيرات، فيما أخذت خلية المتابعة في مكتب رئيس الوزراء تنشر شائعات انسحاب المتظاهرين إلى منازلهم ببث بيانات لـ"تنسيقيات" لم يتحقق من هوياتها"، لافتًا إلى أن "أشد الشائعات كان مساء يوم 28 تشرين الأول/أكتوبر حيث فرضت القوات الأمنية حظرًا للتجوال فيما ازدحمت شوارع بغداد في مظاهر احتفالية، نساء وفتيات، رجال وشباب، صغار ومراهقين من كل الأعمار، في حالة من التحدي للحظر وكسره".

الترويج للخروج عن السلمية، كان واحدًا من أكثر العوامل التي عملت السلطة على ترسيخها، خاصة وإنها تمتلك عناصر استخبارات ومخابرات تستطيع الإيقاع بأي محاولة لحرق ممتلكات عامة وخاصة"، معتبرًا "خلية المتابعة هي بمثابة جيش إلكتروني يروج للحكومة وعمل ضد المتظاهرين، وهو أمر اعتدنا عليه منذ رؤساء الوزراء السابقين".

مواجهات الكر والفر

خلال الأيام الأولى كان الخيار الذي يعمل عليه المحتجون هو اقتحام المنطقة الخضراء عبر جسر الجمهورية، والذي قطعته القوات الأمنية بثلاث حواجز كونكريتية، وأخذت تضرب قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي من الحاجز الأخير.

يروي حسن سلام تفاصيل الأيام الأولى "كانت القوات الأمنية وتحت إطلاق كثيف للغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي تتقدم عبر جسر الجمهورية، تصل إلى مقدمة الجسر وتغطي المنطقة بأكثر من اتجاه بالغاز وتعاود التمركز على الجسر، حيث حاولت استعادة المطعم التركي، ودفعت لأكثر من مرة المعتصمين خارج ساحة التحرير، حتى تسرب المحتجين في مرات عديدة صوب الخلاني والسعدون وساحة الطيران على أمل العودة، وعادة للتمركز على جسر الجمهورية، فيما عاود المتظاهرون إلى مواقعهم".

تخلل عمليات الكر والفر سقوط مئات الضحايا بين قتلى وجرحى في صفوف المتظاهرين، حيث تكثف القوات الأمنية من إطلاق الرصاص المطّاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع 

تابع سلام في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "عمليات الكر والفر، تخللها سقوط مئات الضحايا بين قتلى وجرحى في صفوف المتظاهرين، حيث القوات الأمنية تكثف من إطلاق الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع في ساحة التحرير"، لافتًا إلى أنه "شوهدت للمرة الأولى هذا اليوم الطائرات المسيرة تحوم فوق سماء الساحة والمناطق القريبة من شارع فلسطين ووزارة الداخلية".

اقرأ/ي أيضًا: حرب البيانات.. الحكومة والمعتصمون والأطراف الثالثة

أشار سلام إلى أن "المتظاهرين استخدموا الألعاب النارية في ساحة التحرير وقرب المطعم التركي وهو ما اعتبرته القوات الأمنية تهديدًا، وردت بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطّاطي بكثافة، وعملت على السيطرة عليه، فيما كان المتظاهرون من جهتهم لا يريدون التخلي عن المبنى الأعلى في الحيز الكبير، في تقديرهم أن استعادته من قبل القوات الأمنية ستشرف على الساحة من أعلى مكان إستراتيجي".

بعد وقوع الضحايا واستمرار المواجهات توصل المحتجين إلى قناعة بعدم جدوى عبور الجسر وبدأوا يفكرون بالتمدد الأفقي، بحسب سلام، والذي قال إن "العديد من القائمين على الأجهزة الصوتية وجهوا نصائح للمتظاهرين بترك التقدم نحو الجسر، فيما طورت القوات الأمنية من أدواتها القمعية حيث استخدمت قنابل الغاز بعيدة المدى بالإضافة إلى المحملة برذاذ الفلفل، والرصاص المطاطي".

الطلبة.. تنظيم غير معلن

كانت الأوراق التصعيدية للمحتجين محدودة، ولم يتخيل دخول قوى وشرائح فاعلة على خط التحشيد والضغط على الحكومة، حيث دخل الطلبة والاتحادات والنقابات معلنةً الإضراب العام.

زمن علي قالت إن "الأمواج البيضاء من الطلبة القادمين من مناطق مختلفة وجامعات ومدارس منحت دفعة كبيرة للساحة، رغم التضييق الكبير الذي تعرض له طلبة جامعتي النهرين وبغداد ومنعهم من الوصول إلى الساحة بإعداد جيدة"، لافتًا إلى أن "دخولهم بزيهم أضفى جمال وروحية على الساحة ودافع لحضور شرائح أخرى مثل التجمعات النقابية التي أعلنت الإضراب العام".

وأضافت علي في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "وجود الطلبة نظم التوافد للساحة بشكل غير معلن من حيث توقيتات الانسحاب للراحة ووصول أعداد جديدة على مدار الساعة في كل يوم  حيث تزدحم حتى الظهيرة بتواجدهم، فيما يحضر الآخرين بعد إنهاء أعمالهم وواجباتهم المنزلية"، لافتةً إلى أن "الطلبة نظموا فعالية كثيرة مثل حملات التنظيف في الساحة ومحيطها وإطلاق مسيرات داخل الساحة برفع العلم العراقي والهتافات الوطنية".

الأمواج البيضاء من الطلبة القادمين من مناطق مختلفة وجامعات ومدارس منحت دفعة كبيرة لساحة التحرير

يتضح يومًا بعد آخر تنظيم جيد وخبرة على مستوى المخيم وحتى التعامل مع الحالات الطارئة والإصابات والتعاون الكبير مع المسعفين المتطوعين والملاكات الصحية والطبية، والأهم، تعلم كيفية السيطرة على القنابل الدخانية وطرق الاحتماء والوقاية.

اقرأ/ي أيضًا: من خدمة الزائر إلى "الثائر".. التضامن الوطني في الاحتجاجات

وضع المتظاهرون خطين بينهم وبين القوات على الجسر، إطارات محروقة، ثم المتاريس الكلاسيكية، المسافة بين المتظاهرين والقوات المتصدية لا تتعدى 25 مترًا.

الامتداد الأفقي

بعد قناعة المحتجين بضرورة فتح جبهات جديدة للاحتجاج كانت ساحة الخلاني المؤدية إلى جسر السنك وهو الثاني بعد الجمهوري الرابط بين الرصافة والكرخ، الخيار الأمثل للذهاب هناك، بالرغم من قطع القوات الأمنية للجسر.

يروي سعيد ناشي تفاصيل الانتقال إلى جسر السنك، "فتح المتظاهرون جبهة جديدة بعد إسقاطهم للحاجز الأول على جسر السنك المؤدي إلى مسارين في جانب الكرخ، على اليمين تقع مباني فندق المنصور ومحافظة بغداد وشبكة الإعلام العراقي، كل هذا الطريق مغلق بالكتل الكونكريتية، على اليسار يقع مبنى السفارة الإيرانية، وهو طريق مغلق أيضًا ومفتوح للأرتال العسكرية"، لافتًا إلى أن "القوات الأمنية قمعت بطريقة وحشية المتظاهرين ما جعلهم يحاولون التمسك بالجسر وإقامة ساتر لهم هناك، ومن ثم التفكير بالتحصن بأحد الأبنية القريبة".

تابع ناشي في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "المحتجين باغتوا القوات على الجسر والتي كانت قليلة ومعزولة أثناء تبديل الوجبات، حيث باغتها المتظاهرون وفوجئت بانهيار الحاجز الأول، واستخدمت الرصاص الحي لأول مرة ثم الغازات المسيلة للدموع والرصاص المطّاطي، الإصابات كثيرة، الغاز خنق العشرات، والذي لوحظ استخدام نوعيات جديدة منه تحدث ضررًا كبيرًا بالجهاز التنفسي".

مرحلة التنظيم

بعد فتح محاور احتجاج جديدة، وانتهاء المواجهات على جسر الجمهورية وتمتع ساحة التحرير بهدوء تام، بدأت ملامح التنظيم والتنسيق واضحة على الساحة لتتحول تدريجيًا إلى مدينة مصغرة.

مع استمرار الهدوء على جسر الجمهورية، ليس هناك أي متر في التحرير يخلو من آثار لمبادرة تطوعية لأحد ما

بدت الساحة أكثر تنظيمًا من ذي قبل، نصبت حواجز تفتيش بشرية، خطوط متعددة ممن تطوعوا لمهمة ليست سهلة، واجب من ستة إلى ثماني ساعات، بحسب علاء حسن، والذي يقول إن "القنابل الصوتية والمشاكل الفردية واتهام أشخاص بأنهم مندسين كانت جرس إنذار للجميع، دعت الجميع إلى التكاتف وترتيب الصفوف".

اقرأ/ي أيضًا: بيان دولي يوثق انتهاكات السلطة ضد الاحتجاجات في العراق.. قتل واحتجاز جثث!

أضاف حسن في حديث لـ"ألترا عراق"، أنه "مع استمرار الهدوء على جسر الجمهورية، ليس هناك أي متر في التحرير يخلو من آثار لمبادرة تطوعية لأحد ما، من التزيين الرسم والترميم والطلاء في مقتربات الساحة وأرصفتها الى الإنارة، وانتهاءً بغسل ملابس المعتصمين، ممارسات تعبر عن روح تضامنية كبيرة لم تسجلها أية حركة احتجاجية أو انتفاضة شعبية في هذا القرن".

تابع حسن "مارس الشباب بلا وعي الهيمنة على الفضاء المحيط بهم، ليس فقط بالحضور ومسك الأرض، حتى صار المكان مكانهم، والتعبير الأبلغ عن الامتلاك هو وضع البصمة، تكفل كل منهم، حسب تخصصه واهتمامه وإمكانياته بالأمر، إلى جانب الرسامين والفنانين والشعراء، وصل الرياضيون والمسرحيون والموسيقيون، استمعت الى مقطوعات وحضرت مسرحيات، ثم جاء دور كرة القدم، بملعب خماسي وسط الساحة قبالة الجسر، المكان الذي استشهد وأصيب فيه الكثيرون من الثوار برصاص وقنابل الغاز".

يعتقد حسن أن "الكثير من الفعاليات كانت رسالة مهمة في المقارنة بين دور الحكومة والشباب في أثر تلك الفعاليات، وينقل عن شاب طالب المرحلة الأخيرة في قسم إدارة الأعمال كان يمسك بفرشاة لطلاء رصيف نفق التحرير قوله "ادري هذا مجرد صبغ، بس الي يجي ويشوف راح يعرف هاي رسالة مختصرها احنه مو بس معتصمين، احنه مو مخربين".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رعب "السيارة السوداء".. من يختطف الناشطين المتظاهرين ويغيبهم؟!

هل أهدر خامنئي دماء المتظاهرين العراقيين.. كيف سيرد السيستاني؟!