10-مايو-2021

الساحات اليوم منقسمة على نفسها (فيسبوك)

لعلّ الانتخابات المزمع إجراؤها في شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل 2021، أبرز موضوع يشغل فكر العراقيين هذه الأيام. والتساؤل الأكبر: هل الانتخابات القادمة تمثّل حلًّا لأزمة النّظام السياسيّ في العراق؟

وقبل الإجابة عن التساؤل أعلاه، من الضرورة مراجعة نسب المشاركة في الانتخابات الأربع السابقة، لنقيس انطباع المواطن العراقي عن العملية الانتخابية وجدواها. كانت أول انتخابات نيابية في سنة 2005، بنسبة مشاركة 79.6%، تلتها انتخابات سنة 2010، بنسبة مشاركة تُقدّر بحوالي 62.4%، ثمّ جاءت انتخابات 2014، لتسجل نسبة مشاركة بحوالي 60%، وكانت آخر انتخابات في سنة 2018، بنسبة مشاركة بحدود 44.52%، بحسب المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، إلّا أنّ وكالات أنباء عالمية عديدة وسياسيين بارزين وبعض أعضاء المفوضية لاحقًا، قد أكّدوا أنّ نسبة المشاركة الفعليّة لم تتجاوز ال20%! يتبيّن من الأرقام أعلاه أنّ نسبة المشاركة في هبوط وليس صعودًا، ويُعدّ هذا الهبوط مؤشرًا سلبيًا وخطيرًا عن جدوى العملية الانتخابية ونزاهتها في العراق. إذ تُبيّن الأرقام أنّ العراقيين فقدوا ثقتهم بالعملية الانتخابية، خاصة في الانتخابات الأخيرة التي أظهرت نسبة عزوف ومقاطعة تجاوزت الـ80% من العراقيين، تلتها احتجاجات عارمة، مطالبة بالإصلاح والتغيير، أدّت لتغيير في مسارات العملية السياسية والاجتماعية بشكل ملحوظ والانتخابات القادمة المبكرة واحدة من هذه النتائج، إن تمّ إجراؤها بالفعل في موعدها المقرر.

انتفاضة تشرين: من العفوية إلى التنظيم

لم يكن أحدًا يتوقع أن يصل الاحتجاج الشعبي الغاضب إلى هذا المستوى المذهل في تشرين من سنة 2019، مستمرًا بعدها بصعود ونزول متفاوت نتيجة مؤثرات داخلية وخارجية عديدة. انطلق الحِراك الشعبي بعفويّة تامة، ليهتف بشعار واضح، يختزلُ كلّ الشعارات الأخرى وهو شعار (نريد وطن). استمرت الاحتجاجات لفترات طويلة، كان نتيجتها سقوط مئات الشهداء وآلاف المصابين، إلّا أنها لم تخرج من العفوية إلى التنظيم. رغم أنّ الكثير قد ينتقد هذه العفوية، إلّا أنني أرى أنّها لم تكن سيئة بهذا الحجم كما يتصورها البعض، كونَ الاحتجاج فعل لحظيّ عفويّ، ينتج نتيجة تراكم مسارات تاريخية، يتفجر في لحظة معينة فيبدو كأنه فعل جديد أو مولود جديد، والمولود الجديد من الصعب تنظيمه من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ المسارات الاجتماعية والسياسية في العراق من الصعب أن تسير بصيرورة تراكميّة متوائمة. لذلك كانت دعوات التنظيم تُجابه بالرفض، وغلب شعار (الوعي قائد) على شعار التنظيم والقيادة الواقعية، ولعلّ لهذا ما يبرره، فالكثير كان يتحيّن الفرص للصعود على أكتاف الانتفاضة بدعوى القيادة، في ظلّ فورة غضب شعبيّة ثورية عارمة، لا تريد أن تُسرَقَ انتفاضتها. يدلّ على ذلك ما تلى الصفحة الثورية، حيث ظهرت بدايات لتشكيل نَوَياتٌ تنظيمية، على البعد السياسي والإجتماعي، ما زالت في مرحلة التكوين والبناء. قررت بعض هذه التنظيمات الجديدة الدخول إلى المعترك السياسي، وقرّرت المشاركة في الانتخابات القادمة، لنقل المعركة من الشارع والساحات إلى قبة البرلمان كما يعبّرون، إلّا أنها لم تستطع لهذه اللحظة، تقديم برامج فعّالة وموضوعية لبناء الدولة، ولم تستطع أن تشكّل قواعد جماهيرية فاعلة، كونها تشكيلات جديدة تفتقد للخبرة وللوقت المناسب لإتمام العمليات والسياقات الصحيحة لتكوين أحزاب أو تنظيمات سياسية فاعلة بديلة.

يمكن أن يطرح الطرف المقاطع هذا التساؤل: هل الانتخابات حلًا في ظلّ سلاح قوى السلطة وقوى اللادولة؟!

أصعب ما تواجهه التنظيمات السياسية الجديدة، المنبثقة من الساحات الاحتجاجية، هي الساحات نفسها. فالساحات اليوم منقسمة على نفسها، بين مؤيد للعمل السياسي ومعارض، يدعم الأول المشاركة الفاعلة في الانتخابات، فيما يدعم الثاني خِيار المقاطعة. لم ينتهِ الموضوع هنا، بل أنّ هذا الخلاف تحوّل إلى تسقيط وتخوين وتنابز بين الطرفين. يبدو أن المشكلة الأساسية التي نعاني منها على مرّ العصور، أننا نحبّ أن نتكلم أكثر مما نستمع، ونجادل أكثر مما نتناقش بحيادية وموضوعية. مشكلة الطرفين أنّهما لا يستمعان لبعضهما، وهذا يسبب عدم فهم الآخر وتقدير مستوى قناعاته، ومن دون حوار وإنصات لبعضنا لن نتقدم خطوة إلى الأمام.

المشاركة أم المقاطعة؟

من المهم أن نفهم أن الانتخابات عبارة عن عملية متكاملة وليست اقتراعًا فقط. لا شكّ أن الاقتراع جزء من العملية الانتخابية، التي تتكون من مراحل عديدة وآليات معينة، من دونها لا يمكن أن نسميها عملية انتخابية، ومثاله الانتخابات في زمن النظام السابق أو النظام السوري الحالي وما شابه، فهناك انتخابات، لكن لا توجد عملية انتخابية، كما أن في العراق ديمقراطية ونظام برلمانيّ كمسمّى مثلًا، إلّا أن الواقع لا يشير لذلك! ففي الوعي المجتمعي أصبحت الانتخابات في العراق تشبه المثل المشهور: "تُريدُ أرنبًا؟ خُذْ أرنبًا؛ تريد غزالًا؟ خُذْ أرنبًا!".

اقرأ/ي أيضًا: حول الاحتجاجات ومقاطعة الانتخابات.. الآن

الواضح أن الانتخابات القادمة ليس فيها سياق العمليات الانتخابية النزيهة والمُطمئِنة، قياسًا من انتخاب أعضاء المفوضية بالمحاصصة الحزبية المعروفة إلى سلاح الأحزاب الراديكالية المنتشر والمهدد للسّلم الأهلي وللعمل الديمقراطي. فكيف يأمن مرشح على نفسه في ظلّ أحزاب تستخدم المال السياسي والسلاح لتكميم الأفواه؟! وكيف للمواطن التحقق من اختيار المرشح المناسب في ظلّ تجارب سيئة سابقة علقت في ذاكرته؟! هذه أسئلة ملحّة على تيار المشاركة الفاعلة أن يفكّكها ويجدَ لها الحلول الموضوعية. من الغريب أنّ الكثير من أصحاب هذا الاتجاه يطرحون أسئلة غير منطقية على التيار الآخر المقاطع، فإن قال لهم أحد إن التشكيك بالانتخابات عامل أساسيّ يدفعنا للمقاطعة، يجيبه بلا تريّث: وما هو الحلّ برأيك، هل تريدنا أن نستخدم السلاح؟! كأنه لا خيار آخر؛ إمّا الانتخابات أو السلاح. يمكن أن يطرح الطرف المقاطع نفس التساؤل بصيغة أخرى: هل الانتخابات حلًا في ظلّ سلاح قوى السلطة وقوى اللادولة؟! ولا أحسبُ أن التيار الداعم للانتخابات سيجد جوابًا منطقيًا مقنعًا، غير التحدث عن الأمل بدل السياسة والواقعية. ثمّ أنني أرى البعض يتهم جمهور المقاطعين بأنهم متأثرون بالخطاب الحزبي الذي يصفونه بأنّه يدفع أتباعه للمشاركة الفاعلة ويحبّط من عزيمة أصحاب حلم التغيير، بدفعهم للمقاطعة، وهنا يدين نفسه من حيث لا يشعر، فإن استطاعت قوى السلطة التأثير على الغالبية المعارضة لهم بهذه الطريقة، فعلى قوى دعم المشاركة الانتخابية الفاعلة أن تراجع أوراقها وتعيد حساباتها وخطاباتها لتقنع هذه النسبة الكبيرة من دعاة المقاطعة.

نعود إلى قوى المقاطعة، ونتساءلُ عن آليات التغيير التي ينشدونها. في الحقيقة فإنّ هذا التيار يدعم العمل الإحتجاجي كورقة ضاغطة تؤدي في النهاية إلى انهيار النظام بعد ترهّله، خصوصًا وأن النظام السياسي في العراق ميّت سريريًّا لولا التنفيس الاصطناعي الذي يتلقاه من دول خارجية. ولعلّ خِيارهم هذا فيه وجهة نظر يجدرُ قراءتها والتمعن فيها. فهذا الطرف يرى بأنّ المقاطعة إن لم ترفع الشرعية عن النظام تدريجيًا، فعلى أقلّ تقدير أنّها لا تساهم في عملية محسومة مسبقًا، لتستخدم الأحزاب السياسية وقوى اللادولة هذه المشاركة لضرب أي حِراك احتجاجي مستقبلًا، بدعوى أن النتائج كانت نتيجة مشاركتكم ولا يحقّ لكم الاعتراض على العملية الديمقراطية! وهذه المخاوف، مخاوف موضوعية منطقية، فلا يمكن لأحدٍ ضمان عملية انتخابية نزيهة، خاصة وأننا نشاهد كيف تستعد القوى الراديكالية لتقسيم النفوذ ومقاعد البرمان منذ الآن، وتُعارض الإشراف الأممي بدعوى خرق السيادة! وهناك تهديدات بالتصفية الجسدية للمعارضين مستمرّة بشكل ممنهج.

أرى أنّ تبني رؤية وسطية معتدلة واستماع كلّ طرف للطرف الآخر من دون عُقد وأفكار مسبقة تغلقُ القلوب والعقول قبل الآذان أمر ضروريّ جدًا، لحسم الخِيارات بقراءة سياسية واقعية. أتصوّر أننا بحاجة لمعارضة سياسية خارج منظومة النظام السياسي القائم، تعمل على بناء نفسها بناءً صحيحًا وفق برامج عمل رصينة وقابلة للتطبيق، استعدادًا للحظة تاريخية من أجل بدأ العمل السياسي المستدام طويل الأجل، وليس تشكيل مشاريع انتخابية تنتهي بانتهاء الانتخابات وتوزيع المقاعد. ليس بالضرورة أن تكون المعارضة السياسة جزءًا من العمل في النظام السياسيّ القائم، بل يمكن أن تمثل هذه المعارضة ورقة ضغط كبيرة خارج النّظام السياسيّ ترتبط بالشارع وحِراكاته الاحتجاجية، لتنتج معادلة معارضة سياسية-شعبية، تتخذ الشارع درعًا لها، حتى تأتي اللحظة المواتية وقد ركّزت دعائمها بالشكل المطلوب لقيادة البلد. بهذه المعارضة السياسية-الشعبية، يمكن للحِراك الاحتجاجي أن يسلك مسار مقاطعة الانتخابات مثلًا ليكون خِيار المقاطعة خِيارًا شعبيًا مدعومًا بمقاطعة سياسية هادفة تمثل الخط الاحتجاجي، لأنّ كثيرًا من القوى السياسية الجديدة ستصطدم بمعارضة شعبية لها من قبل ساحات الاحتجاج نفسها، وستكون في قائمة الأحزاب الفاسدة السابقة في المخيلة الشعبية. لذلك على القوى الاحتجاجية أن تحسب حساباتها جيدًا، لأنّ النّظام السّياسي القائم أثبتَ فشله، ومن المتوقع أن يحرق كلّ مَن يدخل في خرائبه.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

مرشحو الانتخابات المبكرة هم الأقل خلال 18 عامًا.. ما هو "الرهان الأكبر"؟

اغتيال إيهاب الوزني.. قوى وأحزاب وشخصيات تُقاطع النظام السياسي