07-أغسطس-2020

حلم أو هدف استعادة الدولة كان المحتجون من رفعه (Getty)

شأنها شأن الأحداث الكبرى التي أفضت إلى تغييرات جذرية راديكالية، أو حتى تلك الأحداث التي لم يكتب لها أن تحقق ما قامت من أجله، تبقى حركة تشرين الأول/أكتوبر 2019 محط اهتمام وتمحيص كبير، ولعلنا هنا نستطيع استعارة ما قاله نيكولاس بولانتزاس إن "كل نظرية منذ ماكس فيبر، أما حوار مع الماركسية أو هجوم صريح عليها"، والاستعارة هنا تفيدنا كتشبيه أرى أنه مهمًا، فمنذ انطلاق الحركة الاحتجاجية العراقية بوجهها الأبهى ونسختها الأكثر تطورًا ووعيًا في 2019 سواء اقتنع البعض من أنها استطاعت أن تحدث صدعًا كبيرًا في جدار اللا مفكر فيه أم لم يقتنع، فإن جميع الفعاليات والمواقف، سواء تلك التي أقدمت وتقدم عليها الحكومة أو تلك الخاصة بالأحزاب السياسية العاملة والحاضرة على الساحة السياسية العراقية، هي خطوات جاءت أما بدفع من مخرجات الحراك التشريني، أو اتقاءً لما ممكن أن يحدثه هذا الحراك الذي لم يهدأ إلى الآن. مخرجات يرى الحاكمون على مقاليد السلطات السياسية والاقتصادية أنها من الممكن أن تطيح بما اكتنزوه منذ 2003 ولغاية اليوم. وبالمختصر أن كل ما نعيشه ونشهده لا يخلو من إحدى بصمات انتفاضة تشرين 2019.

كان شعار (نريد وطن) تتويجًا لكل الحراكات التي سبقت انتفاضة تشرين والتي كانت قد رفعت شعارات أقل خطورةً ووعيًا منه 

نرى ذلك الوعي المتطوّر هذه المرة حين نعيد إلى الأذهان المطلب الأول والرئيس في هذا الحراك، وهو محاولة إعادة إنتاج الدولة وإظهارها إلى حيز الوجود بعد أن غابت تدريجيًا بفعل سياسات متعمّدة منذ الاحتلال الامريكي ولغاية الآن، هذا الشعور الذي اكتسح الغالبية تقريبًا بالحاجة الملحة للدولة كان واحدًا من أبرز أسبابه هو أن الجماعة الوطنية/الأمة أو ما أطلقه البعض تندرًا "الجالية العراقية في العراق" فطنت هذه المرة إلى غياب ما يوحدها، هذه الوحدة التي تفرقت إلى جماعات تتناحر بعنف وعلانيةً أحيانًا، وفي أحيان أخرى كان هذه التناحر ناعمًا خفيفًا يجري ظاهريًا، وكأنه بعيدًا عن الشارع، إلا أن مخرجاته لا تصيب في الدرجة الأولى إلا الشارع نفسه. من هنا كان شعار (نريد وطن) تتويجًا لكل الحراكات التي سبقت الحراك الأخير والتي كانت قد رفعت شعارات أقل خطورةً ووعياً من هذا.

اقرأ/ي أيضًا: بعد تحديد موعد الانتخابات المبكرة.. ما هي سيناريوهات العمل السياسي للمحتجين؟

حلم أو هدف استعادة الدولة أو إنتاجها من جديد، والتي كان المحتجون يتحركون باتجاهها كانوا قد رسموا وبصورة واضحة لا لبس فيها الطريق المؤدي إلى مبتغاهم، فقالوا إنها تأتي عبر الطرق السلمية، الطرق الديمقراطية التي تضمن تداولًا غير عنفي للسلطة، يكون فيه المواطن العراقي حرًا في أن يقول ما يعتقد أنه صحيحًا وضامنًا لهدفه المرتجى، فكان مطلبهم بعد محاكمة المتورطين بدم المحتجين، هو إجراء انتخابات مبكرة، وأرى أن التأكيد مهمًا هنا على ان ما طرحوه ـ الانتخابات المبكرة- تمثل الوسيلة إلى استعادة الدولة التي يريدونها لا الغاية التي ينتهي إليها الحراك أو التي قام من أجلها. فمحرّكات تشرين ودوافعه لا علاقة لها بادئ الأمر بعبد المهدي شخصيًا أو حكومته بصورة عامة، بل كانت ترتبط بالدولة ككل، سياستها وماهيتها، علاقتها مع الجماعة الوطنية/الأمة ومدى تمثيلها لهم، نعم فقد تطوّر الأمر بعد حمام الدم الذي أمر به عبد المهدي أو شارك فيه أو حتى أنه لم يشترك ولكنه عجز عن إيقافه، الحراك كان أساسًا ينظر إلى ماهو أبعد من عبد المهدي وحكومته، كما أنه لا يفكر الآن بالكاظمي وكابينته، النقطة التي يقع عليها نظر الحراك التشريني هو الدولة والنظام السياسي فيها. من هنا يبدو واضحًا أن مطلب الانتخابات المبكرة المراد منه إحداث تغيرًا مهمًا جذريًا وواضحًا يطال النظام السياسي، إنتاجه من جديد ليتلائم مع تطلعات الشارع المحتج، أو إرجاعه إلى الجادة التي يجب أن يسير فيها بعد أن شطح بعيدًا.

ومنذ أعلن الكاظمي عن نيته والحكومة إجراء انتخابات مبكرة في السادس من حزيران/يونيو 2021 فقد أعاد إلى الأذهان كل تلك التساؤلات عن جدواها وأهميتها، عن قانونها الخاص والذي سلق سلقًا وتم الادعاء زورًا بأنه يمثل رغبة وتطلعات المحتجين، وهو في جوهره قانونًا يعيد إنتاج هذه الطبقة السياسية التي رحبت به وصوتت له، قانون لا يقتصر على تقسيم العراق على دوائر متعددة تمثل كل محافظة من المحافظات دائرة انتخابية واحدة، بل جرى أيضًا تقسيم تلك الدائرة والواحدة/المحافظة الواحدة إلى دوائر متعددة يمثلها القضاء والناحية. وهذا القانون سيصب في صالح هذا التحالف الطبقي المتحاصص القائم الآن.

وليس بعيدًا عن قانون الانتخابات والذي فصّل على مقاسات من أوغلوا بدماءنا ونشير إليهم دائمًا باعتبارهم أباطرة الفساد، هناك المال السياسي والذي لا يمتلكه سوى هؤلاء الذين استغلوا مواقعهم الكبيرة والمهمة في الدولة وعلى امتداد السبعة عشر عامًا الماضية، والذي يفعل فعلته في شراء الذمم وما يمتلكه من قدرة فائقة على تغيير مجرى أي عملية انتخابية لا يفرض القائمون عليها شروطًا واضحة وصارمة وجدية على استخدامه، ناهيك عن السلاح المنفلت القادر على تحويل العراق إلى جحيم لا يبرد، وبلاد لا تستقر في حال جاءت نتائج الانتخابات على غير ما يتوقعه وينتظره من يملك هذا السلاح. إضافةً إلى النفوذ الأجنبي الذي لم نستطع الخلاص منه بعد. وفي ظل كل ما ورد أعلاه، فإن الانتخابات المبكرة سيكون الخاسر الوحيد فيها هو الشارع المحتج، والرابح هي تلك الأحزاب السياسية والتحالف الطبقي القائم حتى وإن اختلفت النسب في الحصول على مقاعد في البرلمان القادم.

الانتخابات الجيدة، وكما يراها غيورغ سورنسن ترتبط بما يحدث خلال فترة الإعداد لها، والتي تسبق الحدث بقدر ما ترتبط بالعملية السياسية التي تلي الحدث، ولا اعتقد أن هناك من يرى في البيئة السياسية والاجتماعية اليوم ما يمكن اعتباره مقدمات ناجحة لانتخابات جيدة ممكن أن يعوّل عليها في تحقيق ما خرج الشارع من أجله وقدم كل تلك الدماء في سبيله.

شخصيًا، لا أرى في أي انتخابات قادمة (مبكرة أو دورية) حدثًا من الممكن أن ينقلنا من حالة الضياع التي نعيش إلى برٍ آمن طالما لم يكن للحركة الاحتجاجية وجودًا فيها، هذا الوجود المقصود به أن يؤطر الشارع المحتج نفسه بإطار يساعده على أن ينخرط من خلاله في الفعل الانتخابي، سواء كان ذلك عن طريق انبثاق حزب سياسي جديد، أهدافه كل تلك المطالب التي رفعت في سوح الاحتجاج، أو ائتلافات انتخابية على مستوى المحافظات. وهي الأقرب الى الواقع والأضمن والأسرع تقريبًا، إذ تمتلك ساحات الاحتجاج رؤىً واضحة حول محافظاتها، وكل ساحة باستطاعتها أن تؤشر على مواطن القوة والضعف في المحافظة، كما أنها الوحيدة القادرة على معرفة وجهات التحرك، وهو خزين يتبلور منذ بداية الاحتجاج ولغاية الآن، وهذا من شأنه أن يسهّل عملية التشكيل والاختيار والمشاركة وطرقه.

الانتخابات المبكرة لا تكون حدثًا مهمًا من الممكن أن يؤثر دون أن يشارك فيها المحتجون عبر تأطير أنفسهم في كيانات سياسية

المعنييون بالحركة الاحتجاجية أفرادًا كانوا أم أحزابًا، وفعاليات سياسية أمامهم المزيد من بذل الجهود لتشكيل صوتًا سياسيًا رسميًا قادرًا على المنافسة في الانتخابات من الآن استعدادًا لخوضها في حزيران/يونيو 2021، واذا تعذر ذلك لأي سبب كان من ضيقٍ للوقت أو غيره فخيار مقاطعة الانتخابات القادمة هو الأرجح، ولينخرط الجميع في عمل شاق وطويل لتشكيل شيئًا من هذا القبيل استعدادًا للانتخابات الدورية. غير ذلك اعتقد أن الانتخابات القادمة مقامرة كبرى بمستقبل طويل، وتضحيات كبرى وسنوات طوال من الصبر والعمل، الانتخابات القادمة تشبه لعبة الروليت الروسي، إلا أن الاختلاف هنا أن أسطوانة المسدس هذه المرة تحتوي على خمس طلقات من أصل ستة. هذا يعني أن نسبة النجاة هي (1/6).

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

بين "الصوريّة" و"الأبكر".. شبكة علاقات السلاح تهدد الانتخابات

توضيح قانوني حول دورالمحكمة الاتحادية في الانتخابات المبكرة