27-أبريل-2019

تحققت على يد الأمريكان "نبوءة" إعادة العراق إلى عصور ما قبل الثورة الصناعية (Getty)

حينما سقط البعث صرخ الناس فرحًا من أجل الحرية والمساواة، وهرولت الجموع صوب تمثال "القائد الضرورة" ليشبعوه ضربًا بأحذيتهم ويسحلوه بالشوارع. لقد كانت لحظة انهيار البعث وقائده الدكتاتور إيذانًا بولادة الحرية والمساواة في بلاد الرافدين، وابتشرت الناس بالوجوه الجديدة القادمة من الخارج.

أثبت الأمريكيون هدفهم "الأمني" في العراق عبر إحالته إلى أشلاء؛ بتدمير البنية التحتية وحل الجيش العراقي وتخريب الوزارات وقتل الناس

تنفس العراقيون الصُعَداء؛ فالتاريخ ينتصر للمضطهدين والغالبية العظمى من المهمشين يتسلمون زمام السلطة، ويعلن ساسة البلد الجُدُد أحلامهم الطويلة العريضة، ويتغنّى العراقيون بحصص البترول وحياة الرفاهية والغنى، خصوصًا أن الصحف اليومية آنذاك كانت تنقل تصريحات بريمر وخططه "السعيدة" لتوزيع الثروة على العراقيين. أكثر من ذلك، كانت هناك لقاءات متلفزة يعلن ضيوفها السياسيون خططهم بتحويل العراق إلى يابان ثانية، والاهتمام بمحافظة البصرة لتغدو صورة طبق الأصل تحاكي مشيخة الإمارات.

اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى الاحتلال.. ما مصير قانون طرد القوات الأمريكية؟

 كانت محافظات الجنوب يوم ذاك هادئة ساكنة، لم تحدث فيها أعمال عنف أو عمليات عسكرية، نظرًا للثروات النفطية التي تتكدّس فيها، فقرّرت القوّة الغازية أن يبقى الجنوب هادئًا. وبالفعل لم شهد الجنوب خرابًا عسكريًا مثلما شهدته بغداد والمحافظات الغربية معقل حزب السلطة. في تلك اللحظات العصيبة كان الناس مخدرين بأفيون الوعود العذبة ويستمتعون بالمشروبات الغازية المتنوعة التي كانت "محرّمة" عليهم في زمن النظام السابق، وكانت شوارع الأسواق التجارية تحتضن القناني الفارغة كفعالية رمزية للدخول إلى الترف الجديد والقادم بقوّة على طريقة السوق المفتوحة. حتى أن الكثير من العراقيين كانوا يبتشرون خيرًا برؤية بريمر وكانت ابتساماته المتكلفّة تمنحهم انطباعات إيجابية.

"الأمن، الحرية، الرفاه، الديمقراطية"

بهذه الكلمات الأربع أطلق الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، من على حاملة طائرات، الوعود الأمريكية الأربعة في مستهل خطابه الذي أعلن فيه "النصر" وإنهاء العمليات العسكرية والاحتلال، من خلال تنصيب قيادات سياسية عراقية كانت في "المنفى".

لقد جهد الأمريكان أنفسهم لتطبيق مفهوم "الأمن" على طريقتهم الخاصة وأثبتوا للقاصي والداني هدفهم "الأمني" في العراق عبر إحالته إلى أشلاء؛ تدمير البنية التحتية وضرب المواقع الاستراتيجية والقصور الرئاسية وحل الجيش العراقي وتخريب الوزارات والدوائر التابعة لها وقتل الناس على الاشتباه والتعمد بتصوير أفعالهم المشينة في سجن أبو غريب.

يشير تقرير نشرته العربي الجديد في 9 نيسان/أبريل 2017، إلى "سقوط نحو 430 ألف قتيل عراقي منذ عام 2003 ولغاية مطلع عام 2017 الحالي". واحتلت العاصمة بغداد المرتبة الأولى بعدد القتلى بفارق عن محافظة ديالى تليها محافظة الأنبار ثم صلاح الدين، وفي المرتبتين الخامسة والسادسة جاءت نينوى وبابل. وتصدرت العمليات الإرهابية للجماعات المتطرفة والمليشيات الموالية لإيران الصدارة في فاتورة القتلى العراقيين، تلتها القوات العراقية الحكومية ثم القوات الأميركية. وبلغت أعداد الضحايا ذروتها في زمن تولي زعيم حزب "الدعوة" الحالي نوري المالكي رئاسة الحكومة بين عامي 2006 و2014

عمت فوضى عارمة البلاد رافقتها أعمال عنف واسعة النطاق وتعرّض التراث العراقي لأبشع عملية نهب وسلب في تاريخه الحديث أمام مرأى ومسمع قوات الاحتلال

وكان لـ "الحرية" دور بارز بين أوساط الشعب العراقي، ومرة أخرى على طريقة الغرب الأمريكي، بل أكثر، حيث ترك الجيش الأمريكي مخازن السلاح عرضة للنهب، ومارست بعض الجماعات المنفلتة "حريتها" في التنفيس عن المكبوت، وتحولت بعض أسواق العراق الشعبية إلى أسواق مفتوحة للسلاح الخفيف والمتوسط، وأبدت وسائل الإعلام العالمية، والأمريكية خصوصًا، شهية مفتوحة لتوثيق ظاهرة الانفلات التي عمّت معظم محافظات العراق، وكان لبغداد حصة الأسد من الفوضى العارمة التي رافقتها أعمال عنف واسعة النطاق أمام مرأى ومسمع قوات الاحتلال.

وقد علّلت سلطات الاحتلال في حينها ظاهرة السلب والنهب، على أنها ردات فعل جراء الكبت والحرمان الذي كابده الشعب العراقي. لقد تم حرق مراكز الأبحاث وأحراق المكتبات وتعرّض التراث العراقي لأبشع عملية نهب وسلب في تاريخه الحديث.

يشير الدكتور نور الدين الربيعي، إلى "أن العراق فقد 5500 عالم عراقي منذ الغزو الانجلو أمريكي في نيسان 2003 معظمهم هاجروا الى أوربا وشرقي آسيا ودول عربية، والباقون تم اغتيال معظمهم.. والعلماء العراقيون استوعبوا الدرس جيدًا، فبعد اختطاف الدكتور «علي مهاوش» عميد كلية الهندسة في الجامعة المستنصرية والعثور على جثته، أدركوا أنهم يعيشون أجواء لم يعيشوها منذ سقوط بغداد على يد المغول عام ،1258 .. وهناك أساتذة آخرون تلقوا رسائل تحتوي على رصاصات، وقد قدَّم على أثرها خمسة من أساتذة الكلية طلبات إجازات بحثية طويلة خارج العراق".

وبهذه النتيجة المروّعة تكون "نبوءة" جيمس بيكر قد تحققت تمامًا بـ "إعادة العراق إلى عصور ما قبل الثورة الصناعية. ويكون العراق قد جّرب أول مذاق لطعم "الحرية" التي وعد بها جورج بوش الابن، حتى لو لم تكن هناك استراتيجية أمريكية واضحة لغزو العراق بشهادة الأمريكان أنفسهم.

أمّا" الرفاه" الذي رافق "الحرية" فقد بانت ملامحه للعراقيين، بعد أن رأوا بأم أعينهم "القطط السمان" كيف تستولي على مقدرات البلد وتحيله إلى جحيم. بعد ازدياد صادرات النفط التي لم يشهدها العراق الحديث، ازداد معه حجم الفساد وحجم الأرقام الفلكية المسروقة التي قاربت التريليون دولار!!.. وظلت البنى التحتية كما هي عليه، ولم تُطلق حتى هذه اللحظة عملية تنموية ترفع من المستوى الاقتصادي للبلد.

 تحققت بالنتيجة المروعة التي وصل إليها العراق "نبوءة" جيمس بيكر  تمامًا بـ "إعادة العراق إلى عصور ما قبل الثورة الصناعية

إن الأموال التي سرقت من خزينة العراق يمكنها أن تبني الشرق الأوسط!، لكن ما حدث هو العكس تمامًا عبر "حكم الطائفة" الذي حول البلاد إلى ثلاثة دهاليز سوداء

إن الأموال التي سرقت من خزينة العراق يمكنها أن تبني الشرق الأوسط!، لكن ما حدث هو العكس تمامًا، إذ استمر الأمر كما هو عليه، وظلت البنية التحتية الصناعية أثر بعد عين، ولا زالت المصانع العراقية مهجورة تنتظر أحد الطفيليين لتحويلها إلى القطاع الخاص.

لم يتوقف الأمر على الصناعة وعائدات النفط المنهوبة، بل تعداها إلى الزراعة التي كانت تغطي حاجة المستهلك العراقي إلى حد كبير، وتحول العراق إلى "مطعم كبير" لمنتوجات دول الجوار، وأصبحت المائدة العراقية "سوقًا تنافسية" للغذاء الإيراني والتركي والسعودي، وقد أدرك العراقيون معنى "الرفاه" الذي كانوا ينتظرونه من جماعة الاحتلال وجماعته في المنطقة الخضراء.

اقرأ/ي أيضًا: الاحتلال الأمريكي.. كابوس اتضح باكرًا!

هل كان مفهوم "الديمقراطية" متداولًا في أدبيات أحزاب الإسلام السياسي العراقية؟ هل كانت تحلم بالتقرّب من كرسي السلطة وتحقيق العدالة والمساواة لشعب أنهكته الحروب وحطمت نفسيته ذاكرة العنف؟.

بالطبع كلّا، بل كان أكبر همهم "إنزال حكم الله على الأرض"، لكن سرعان ما غيرت هذه الأحزاب جلدها بعد أن رأت النعيم الذي لم يحظَ به الأنبياء والرسل، فتحولت إلى أحزاب برامجية، غير أنهم لم يفلحوا لا بهذه ولا بتلك، فتصدوا لـ "الديمقراطية" التي اخترعها لهم بريمر، وهي حكم الطائفة، ويكون المنطق الذي يسيّر هذه العملية السياسية الأضحوكة هو شعار سقيفة بني ساعدة "منّا أمير ومنكم أمير"، فتحول العراق إلى ثلاثة دهاليز سوداء" شيعي، سني، كردي. فما على الجموع الطائفية الناخبة سوى وضع أصواتهم لأبناء الطائفة أو القبيلة. وقد كان ثمن ديمقراطية الطوائف باهظًا للغاية وكلفنا أرواحًا بريئة وسنوات موحشة وبلد يتجه للمجهول وشعب منقسم على نفسه وسلطة قضائية مسيسة وبرلمان مشغول بسن القوانين التي تمنع الألعاب الألكرونية!.

نجح الأمريكان في رمي العراق في المجهول بطريقة لم يفكر فيها أعتى إرهابيو التاريخ، بدءًا بحرب إيران حتى وعود الاحتلال الأربعة

لقد نجح الأمريكان في رمي العراق في المجهول: حرب الثمان سنوات التي دعموها سرًا وعلنًا، وحصار دام 12 عام حطم نسيج المجتمع العراقي، واحتلال هدّم ما تبقى فيه، ثم أدرك ساسة البيت الأبيض أن العراق لا زال يتنفس، فعليه لابد من "الأمن، الحرية، الرفاه، الديمقراطية" على الطريقة الأمريكية، هذه الطريقة التي لم يفكر فيها أعتى إرهابي في التاريخ.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

جردة حساب في مواجهة الاحتلال الأمريكي.. كيف انقسمت المقاومة العراقية طائفيًا؟