13-يونيو-2019

الفنّان العراقي أحمد فلاح

لا يكمن خطر التدين "الشعبوي" من كونه وليد الخرافة والجهل، وتوسيع رقعة المقدس لتشمل غير المقدس، بل أن الخطر الحقيقي لهذا النمط من التدين الشائع، هو استغلاله وتبني خطابه من قبل الجماعات والمؤسسات الدينية والسياسية، التي يتوطد وجودها، عن طريق تجهيل المجتمع من خلال "استحمار" الناس وتكبيل أفكارهم وجعلهم يعيشون بحالة "سيزيفية" تنشد الخلاص والإصلاح ولا تجده على أرض الواقع.

المتهم الرئيسي في منظومة هذا "التدين" هو الشعب، وما السلطة إلا قضاء جبري مدبر من قبل الله، وظيفتها تكفير الذنوب وتطهير خيانات الآباء والأجداد

إن المتهم الرئيسي في منظومة هذا التدين هو الشعب، وما السلطة إلا قضاء جبري مدبر من قبل الله، وظيفتها تكفير الذنوب وتطهير خيانات الآباء والأجداد!.

اقرأ/ي أيضًا: الكتب التي يعشقها الدكتاتور

تتشكّل هذه الرؤية مدعومة بعدة نصوص وأفكار مزيفة يتلقفها الناس من "روزخونية" المنابر حسب ما تدفع به رياح خيالاتهم من قبيل "كيف ما تكونوا يولى عليكم"، وبعض الكلمات التي تنسب ظلمًا إلى علي بن أبي طالب "يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق"، إلى آخره من الأحاديث التي يتلقفها الناس وتدخل في جرارة عقولهم، دون أي فلترة أو سؤال، مما يجعلهم يائسون منكسرون مستسلمون إلى الظلم الذي حل بهم بالإضافة إلى جلد الذات، وبذلك تعطل وظيفتهم في ممارسة أي إصلاح سواء عن طريق الاحتجاجات أو غيرها، والسبب أنهم مذنبون؛ لأن الإمام أو الخليفة دعا عليهم وقال "اللهم لا ترضي الولاة عنهم أبدًا"، أو اتهمهم بـ"الشقاق والنفاق"، وبذلك يكون الحاكم بريئًا من كل نقص لأنه وبحسب هذه القراءة، مرآة تعكس حقيقة هذا الشعب.

وعلى الرغم من أنّ هذه الأحاديث والنصوص مزيفة، وأنها وليدة الخيال الشعبي "المنبري" الذي يعّمق ويهوّل الأحداث ويخلطها ويجرف دلالتها. فإنها تساهم في خدمة الحاكم وتجعل الناس توجه سياط جلد الذات إلى نفسها بشكل مثير للقرف، فتولد كلمات من قبيل "احنه ما تصير لنا جارة"، "نحن شعب متخلف لا يستحق الحياة" إلخ.. من هذه العبارات التي نسمعها بين الحين والآخر، وكأنّ التخلف أمر فطري ولدنا ومختوم على جباهنا "شعب متخلف"، دون أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: هل التخلف نتيجة لشعب أم لسلطة؟ وهذا ما يعطي التبرير للسلطة السياسية في كل ممارساتها الشائنة، إنْ غضوا الطرف عنا فأنتم شعب متخلف تستحقون هذا الذي أنتم فيه. لكن في نظرة سريعة في المدونة الدينية نرى أنّ الشعب بريء من ذلك، وأنّ أصابع الاتهام الحقيقية تتجه إلى الحاكم وليس الشعب، فقد ورد في الحديث النبوي "صنفان من أمّتي إذا صلحا، صلح الناس، الأمراء والعلماء". وورد عن سفيان الثوري أنه قال لأبي جعفر المنصور "إني لأعلم رجلًا إنْ صلح صلحت الأمّة، وإنْ فسد فسدت الأُمة، قال: ومن هو؟ قال أنت"، نجد أنّ هذا الخطاب الديني العقلاني يتفق تمام الاتفاق مع منهج النخبة "الصفوة" الذي وضعه "سان سيمون" في العصر الحديث، حيث نظر إلى المجتمع كهرم في قمته توجد صفوة سياسية، وعلى ذلك من المستحيل إجراء أي إصلاح في المجتمع إلا بعد تغيير هذه "الصفوة" وبناءً على ذلك يرى سيمون أنّ معيار النخبة الحاكمة هو الكفاءة والخبرة وليس الانتماء والولاء.

ومن الأساليب الأخرى التي تصب في صالح السلطة ووعاظها فكرة أنّ إصلاح الفرد يؤدي إلى إصلاح المجتمع من خلال بث بعض النصوص الدينية وحرفها عن مسارها مما يؤدي إلى خلق صورة قاتمة مضببة بالغبار الذي يجعل الناس يدورون في حلقة مفرغة إلى ما لانهاية، فإصلاح الفرد فكرة كاسدة غادرها دعاة الإصلاح الحقيقيون قبل قرون من الزمن، وهي لا تتفق مع العقل والمنطق، لأن واقع اليوم يقول إنه لا يمكن إصلاح المجتمع عن طريق الدعاء والصلاة والسعي إلى تربية الأفراد لأن هذه وظيفة مرهقة، وهي أشبه بالذي ينشد الشرب من ماء البئر عن طريق دلو مثقوب، لانّ إصلاح الفرد لا يمكن أنْ يؤدي إلى إصلاح المجتمع، وبالتالي إصلاح السلطة السياسية، والتي هي على قمة الهرم الاجتماعي، وذلك لأنّ الفرد مسيّر بعادات وتقاليد وأساليب عيش ونظم أخلاقية وأنه لن يتغيّر ما لم يغيّره المجتمع الذي يعيش فيه، أو يهيئ له أسباب التغيير، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا بواسطة السلطة التي تملك كل عناصر التغيير، سواء حصل ذلك بإرادتها أو عن طريق ممارسة الضغط بشتى أشكاله من قبل الشعب.

انتظار وموت إرادة

ومن الأمور الأخرى التي مسها التزييف هي فكرة انتظار المخلّص وسواء آمنا بهذه الفكرة الشائعة في كل الأديان أو لم نؤمن، فإنّ الأمر لا يتوقف علينا، إذ يؤمن بها الكثير في يومنا الحاضر، وهي تعد من أفكارهم المحورية والشائعة، وترتبط فكرة ظهور المصلح بظهور الفساد في الأرض وبعد أنْ تم التواشج بين المؤسسة الدينية والسياسية قاموا بتزييف هذه الفكرة، وجاءوا بهذه المعادلة التي تقول إن ظهور المصلح يكون عندما يعم الفساد العالم، وكل ما يسرع في إشاعة الفساد فقد يساعد في تعجيل ظهوره! وهذا ما يؤدي إلى موت الإرادة ويجعل الناس ينظرون إلى مجمعاتهم من فوق تل كبير بانتظار مخلصًا أسطوريًا يصلح العالم بكبسة زر!.

هذه الأفكار وغيرها هي من نتاج التديّن "الشعبوي" على خلاف التدين العقلاني الذي أنتج لنا الكلمات الثورية من قبيل "عجبت لمن لا يجد قوته كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه"، ومقولة "أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر". فمثل هذه الأحاديث تغيب تمامًا عن منابر الروزخونية لتحل محلها كلماتهم السمجة التي تغازل السياسيين من قبيل إن "اليد التي وقعت على إعدام صدام لا يمكن أن يدخل صاحبها إلى النار"، كما تفوه بذلك أحد أرباب المنابر المعروفين، في إشارة إلى نوري المالكي المعروف بطغيانه وفساده، وغيرها من الكلمات التي تؤدي إلى طلسمة أذهان الناس، وتشغلهم عن تشخيص الأسباب الحقيقة وراء الظلم والحرمان الذي يعيشون فيه.

إن إصلاح المجتمع يبدأ من إصلاح السلطة السياسية والتي هي على قمة الهرم الاجتماعي، وذلك لأنّ الفرد مسيّر بعادات وتقاليد وأساليب عيش ونظم أخلاقية

يقول ميشيل فوكو إن "الطاغية الغبي قد يضطهد العبيد ويقهرهم مستخدمًا في ذلك سلاسل حديدية، لكن السياسي الحقيقي الماهر يستطيع أن يقيدهم بسلاسل أقوى من سلاسل الحديد بوساطة أفكارهم هم أنفسهم وهو قد يستمد قوته من أننا لا نعرف المادة التي صنع منها".

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الدين و التديُّن.. هل للتعصب هوية؟

قانون قدسية النجف.. تقديس المقدس