15-مارس-2021

لا توجد إحصائية حقيقية بعدد المتسولين في البلاد (فيسبوك)

ألترا عراق ـ فريق التحرير 

لحظات بعد وقوفك عند أي إشارة مرورية في العاصمة بغداد، يتسابق نحوك أطفال لم تتجاوز أعمار بعضهم مرحلة الدراسة الابتدائية، يقدمون خدمات تنظيف زجاج السيارات أو يتوسلون لشراء علكة أو المناديل الورقية، بطريقة يمكن أن تُعتبر من ضمن التسول بـ"الحيلة".

بعد عدة جولات في العاصمة بغداد والحديث مع بعض الأطفال المتسولين، تبين أنهم يأتون قبل بدء توجه الموظفين إلى دوامهم الرسمي

توقفنا عند تقاطع مزدحم وسط بغداد، سرعان ما تقدم نحونا طفل أسمر مغبر الوجه يحمل العلكة، وقال "عمو فدوة أخذ أريد اشتري علاج لأمي"، وفي الأثناء كان سائق التكسي يشتبك مع آخر يكبر الأول بسنوات يحاول تنظيف الزجاج الأمامي للسيارة، فيما يمنعه السائق من التنظيف، وقبل أن ينزل السائق انسحب الطفل مع هجوم "لفظي" أنتبه إليه الجميع، وفي محاولة للإجابة عن علامات الاستغراب والتذمر التي بدت واضحة على وجوه الركّاب، قال السائق: "كل هؤلاء ليس بحاجة للأموال والعصابات تقوم باستغلالهم وتأخذ ما تريده منهم وتعطي لهم الأموال القليلة، مقابل الحماية والسكن والطعام".

اقرأ/ي أيضًا: مليارات نحو البحر.. ما جدوى "المقاولة الأولى" من مشروع ميناء الفاو؟

يجزم سائق الباص على صحّة الرواية، ويحاول أن يعضد كلامه بالقول "اذهبوا إلى منطقة البتاوين وأنظروا إلى فنادق عديدة هناك، يبدأ هؤلاء الذين حولوا التسول إلى مهنة بالخروج من الفجر، كل حسب منطقته"، مبينًا أن "كل مناطق بغداد موزعة بين العصابات، وكل مجموعة أطفال يتابعهم شخص من بعيد، يضمن لهم الحماية".

والبتاوين، هي منطقة تقع في مركز العاصمة بغداد، تمثل مركز المتاجرة بالممنوعات في البلاد، وللأطفال دور فعال فيها، إذ تستخدمهم ما يسمون بـ"العصابات" هناك كعيون تنقل كل شاردة وواردة بالإضافة إلى التسول، حيث تُباع هناك المخدرات وحبوب الهلوسة والمشروبات الكحولية، فضلًا عن منازل الدعارة والمتاجرة بالأعضاء البشرية، بحسب عضو في نقابة المحامين رفض الكشف عن اسمه لأسباب تتعلق بأمنه الشخصي.

تقاطعات للبيع!

حاول صحفي من فريق موقع "ألترا عراق"، الدخول إلى منطقة البتاوين برفقة شخص اعتاد الدخول إلى مطعم يقدم وجبات شعبية سودانية ومصرية وسط المنطقة، وافق على مرافقتنا بشرط عدم التصوير أو التحدث مع أحد، وقال: "أنا أعرف ما تريد، لا تسأل بصورة مباشرة، ولا تخرج هاتفك كثيرًا"، مستشهدًا بما لاقاه العديد من الصحفيين الذين حاولوا التصوير في المنطقة.

طلب "ألترا عراق" أن يصل إلى الفنادق التي يسكنها الأطفال الذين يتسولون في التقاطعات، ومن شارع السعدون الرئيسي وسط بغداد، الذي يربط ساحة الفردوس بنصب التحرير، تمّ الدخول للشارع الفرعي الذي يقع فيه الفندق المطلوب، هناك كان الجلوس في مقهى شعبي، سأل الدليل عن شخص معروف هناك في إشارة منه إلى أنه يعرف أحدًا هنا، وهو يعلم أن صديقه غير موجود، تظاهر بانتظاره، وفي فندق متهالك بدون لوحة دلالة تشير إلى اسمه "المنطقة تقع تحت حماية هيئة الآثار وغير ممسوح بالبناء فيها أو الترميم"، تقطنه العوائل التي يعمل أطفالها في التسول، بالإضافة إلى ثلاثة فنادق أخرى، وفي الأثناء استعرض رجل ثلاثيني لنا أعمار النساء اللواتي يعملن معه في البغاء، تشكر منه الدليل وأبلغه أنه ينتظر صديقه.

أثناء الجلوس، كان نحو عشرة أطفال يلعبون أمام المقهى، هيئاتهم تشبه أولئك الذين يصطادون الناس في الإشارات المرورية، وكان يجلس قربهم طفل ورأسه ملفوف بلفاف طبي، بعد حواره مع أحدهم، فهمنا أن سيارة مسرعة ضربته عند إشارة مرورية، وهو سعيد بهذه الإصابة التي منحته إجازة إجبارية من العمل تنتهي ظهيرة هذا اليوم، أعطيناه نحو نصف دولار، وأخبرناه بضرورة أن يرتاح أكثر ليتماثل للشفاء، لكنه قال إن "أمه ستمنعه من وجبة طعام إن لم يخرج، فوجود اللفاف فرصة للتعاطف معه وكسبه مال أكثر، بالإضافة إلى أنها ستلف يده وتربطها في عنقه"، مستدركًا "كل ما حصلت على أموال أكثر من أخوتي ستعطيني أمي ألف دينار زيادة (1$= 1450 دينار)".

بعد خروج الطفل، علّق الرجل الثلاثيني الذي استلطفنا إلى حد ما، وقال إن "هذا أمه شيخة، مسيطرة على أطفالها وأطفال خواتها وصديقاتها، ومستأجرة تقاطعين من الجماعة"، وأخذ يوضح بعد دردشة دليلنا معه، أن "كل منطقة مسيطرة عليها جماعة، وتشغل الأطفال فيها، هناك من يدفع المبلغ الشهري عن كل تقاطع، وهناك من يدفع المبلغ المقطوع بشكل يومي أو أسبوعي".

وعن سبب مكانة الأم، قال الرجل إنها "تعمل في البغاء ولديها بنات تحت سيطرتها، وتقدم خدمات كثيرة، هذا ما يؤهلها لمكانة الشيخة"، على حد تعبيره، والشيخة مصطلح يطلق على النساء اللواتي يمتلكن سيطرة في عالم الممنوعات، خاصة في البغاء، إذ تملك الشيخة شبكة علاقات مع القوات الأمنية والجماعات المسلحة تؤمن لها الحماية، وتكون أداة ردع لكل من يتمرد عليها من العاملين معها، بالإضافة إلى المنافسين.

وبعد عدة جولات في العاصمة بغداد والحديث مع بعض الأطفال المتسولين، تبين أنهم يأتون قبل بدء توجه الموظفين إلى دوامهم الرسمي، قبل الساعة السابعة صباحًا تقريبًا، وهم من كلا الجنسين، وتصل أعمار بعضهم 15 عامًا، توزع أدوار العمل بحسب العمر، منهم من يبيع المناديل الورقية أو الحلوى، والكبار ينظفون زجاج السيارات، يتمّ التوزيع وحل المشاكل من قبل رئيس المجموعة الذي لم نتمكن من الوصول إليه، وهو يقوم بتقسيم أوقات العمل وتقسيمهم إلى وجبات تتناوب على العمل، فيما يكون نهاية يومهم بحسب المنطقة وانسيابية الحركة فيها.

يقول قانونيون إن قانون العقوبات العراقي يعاقب ولي الأمر أو المسؤول عن رعاية الحدث، على تسول الأطفال

بالمقابل، يؤكد مدير العلاقات والإعلام في مديرية الشرطة المجتمعية عبد الحافظ الجبوري لـ"ألترا عراق"، "ورود معلومات عن وجود عصابات تستغل الأطفال في الأعمال غير المشروعة، مثل التسوّل والمتاجرة بالأعضاء البشرية، لافتًا إلى "العمل منذ أكثر من شهرين على إعداد إحصائية في عموم البلاد، عن الأعداد الحقيقة للأطفال المتسولين، وتنظيمهم ندوات توعوية بالتنسيق مع منظمات المجتمع المدني وشيوخ ووجهاء العشائر والجامعات، للتنسيق في ملاحقة هذه العصابات والتبليغ عنهم".

التسول.. الاتجار بالبشر

قانونيًا، يقول الخبير القانوني حيان الخياط، إن "قانون العقوبات العراقي يعاقب ولي الأمر أوالمسؤول عن رعاية الحدث، على تسوّل الأطفال، فيما يعاقب المتسول نفسه إذا كان بالغًا، والعقوبة هي الحبس البسيط"، مشيرًا إلى أن "مجلس القضاء الأعلى حاول معالجة الموضوع من خلال تطبيق قانون الاتجار بالبشر، والذي يوفر حماية أكبر وتصل عقوبته إلى السنوات".

اقرأ/ي أيضًا: متسولون في بلاد النفط!

ويضيف الخياط لـ"ألترا عراق"، أن "التطبيق الحالي يتمّ من خلال القبض عليهم ومحاكمتهم، مستدركًا "لكن الأمر يحتاج إلى حلول اجتماعية إلى جانب القانون، ونجحت إحدى الحملات قبل أشهر في القبض على عدد من المتسولين، وهناك شريحة أخرى من الأطفال وهم المشردون، هؤلاء يتم توقيع المتكفل بهم على تعهد بالرعاية الجيدة وعدم السماح لهم بالتسول".

وحول التسول بـ"الحيلة"، يقول الخياط إن "هذا النوع يعتبر تسول، ويصنف على أنه عمل، كون الطرف الثاني غير موافق عليه".

بعد حديث الخياط عن قانون الاتجار بالبشر، حاول "ألترا عراق" التواصل مع الجهة المسؤولة في وزارة الداخلية عن جرائم الاتجار بالبشر، لكنه لم يحصل على إجابة، إذ رهنوا الإجابة على التساؤلات بضرورة وجود كتاب رسمي من مؤسسة صحفية مسجلة في نقابة الصحفيين العراقية.

لكن "ألترا عراق" نجح في التواصل مع عضو في جمعية تهتم بقضايا الاتجار بالبشر، والتي أغلقت بعد تلقي أعضائها تهديدات من جماعات مسلحة، على خلفية فتحها ملفات خطرة، أحدها ملف العصابات التي تدير التسول في العاصمة بغداد.

"م.ه"، أحد مؤسسي الجمعية والذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، قال إن "الجريمة مركبة، يشترك فيها جهات نافذة، مكاتب عمل، ورجال أمن، هناك جهات في الدولة وبعضها يمتلك أجنحة مسلحة تستغل سلطتها ونفوذها، وهناك جرائم فردية، والأخيرة محدودة".

وأضاف أن "جميع تقاطعات العاصمة الكبيرة تديرها شبكات، مقسمة حسب مناطق النفوذ، ولا يسمح لأي متسول بالنزول إليها إلا بموافقة رئيس الشبكة أو من يخوله في إدارة التقاطع، ويكون التنظيم هرميًا، في قمته رجل أمن وزعيم العاصبة، غالبًا يلقب الأستاذ، يضمن رجل الأمن التنسيق بين آمري القواطع الذين تحت مسؤوليته، ومخولي الأستاذ، ورجال الأمن الصغار (الجنود) لا يتقاضون أي أموال من هذه التفاهمات، مجرد أن لديهم أوامر بعدم التعرض للأطفال، أو التعرّض في حالة وجود خلافات بين القائد والأستاذ".

وتابع "م.ه"، أن "كل مخوّل يتولى مهمة إدارة 15_25 طفل، يقسمهم إلى مجاميع صغيرة، يديرهم بواسطة أطفال من نفس العدد، يختارهم بحسب العمر، والبنية الجسمانية، وهؤلاء يكونون أعلى درجة من أقرانهم من حيث الامتيازات، وتقع عليه مسؤولية حمايتهم من أصحاب المحال التجارية، أو المشاجرات التي تحدث في الشارع، فضلًا عن جمعهم وإعادتهم إلى سكنهم بدون نقص".

وحول الأموال قال إن "آلية توزيع الأموال ليست ثابتة بالنسبة للمخولين، بعضهم براتب شهري، وبعضهم لهم نسبة من الواردات، وبعضهم يشترون التقاطع بمبلغ مقطوع، هناك عوامل مؤثرة عديدة، مثل الكثافة السكانية للمنطقة، وشكل الاتفاق مع ذوي الأطفال، فالمشردين يعتبرون الأقل ثمنًا لكن عددهم قليل".

وأشار إلى أنه "لا توجد أي أرقام دقيقة لعدد المتسولين، لكن بحسب الأرقام الرسمية هناك 120 ألف متسول بعموم العراق، والعاصمة بغداد تحتل المرتبة الأولى في أعداد المتسولين، تليها محافظات كركوك والبصرة".

ولفت إلى أن "جانب الرصافة يحتل المرتبة الأولى في العاصمة، لكثرة المناطق الشعبية، وتوغل الجماعات المسلحة فيه، ويسكن الأطفال في المناطق واطئة الإيجار، مثل البتاوين والميدان، والعشوائيات قرب معسكر الرشيد".

أزمة ثقة.. توفير البديل

شيوع الحديث عن وجود شبكات تصنف ضمن الجريمة المنظمة تدير التسول، جعلت الكثير من الناس يتعاملون بشيء من عدم الثقة، وثبطت لديهم التعاطف مع مناشدات المساعدة التي تصادفهم في الشارع.

يعتقد مؤسس البيت العراقي للإبداع الذي يأوي عدد من الأطفال الأيتام أن النسبة الأكبر للمتسولين الأطفال يعود إلى استغلال الأب والأم

علي حسن شاب في بداية مشواره في ممارسة مهنة المحاماة يقول إن "مساعدة المحتاج من الخصال المعروفة للعراقيين، وكثير ما نقرأ عن جمع مبالغ كبيرة بوقت قياسي لمساعدة مريض أو بناء دار لمحتاج، لكن تواتر الروايات حول المتسولين خاصة الأطفال والمراهقين جعل الجميع في أزمة ثقة".

اقرأ/ي أيضًا: متسولون في بلد الحضارات

ويضيف المحامي لـ"ألترا عراق"، إنه "لا مشكلة لدي، واعتقد الكثير مثلي، في تقديم يد العون والمساعدة المالية، لكن وجود هذا الكم الهائل من المتسولين يفقدنا التعاطف معهم، خاصة وأنني أفقد الثقة في أنني أمنح هذا المبلغ لمحتاج فعلًا، ينتابني إحساس أنه سيكون ثمن علبة جعة لعضو في عصابة".

ويتفق الجبوري مع المحامي خلال حديثه لـ"ألترا عراق"، حول اختلاط الأمر حول الحاجة الحقيقية للتسول، والذين بات الأمر بالنسبة إليهم مهنة وتديرهم عصابات، فيما يشير إلى "الحاجة لجهد متكامل مع جهات عديدة، مثل قرارات مركزية من الحكومة، ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية، خاصة وأن الكثير من الحملات التي نفذتها وزارة الداخلية كانت تصطدم بعد توفر البديل".

ويعتقد مؤسس البيت العراقي للإبداع الذي يأوي عدد من الأطفال الأيتام، أن النسبة الأكبر للمتسولين الأطفال يعود إلى استغلال الأب والأم، بالمقارنة بالنسبة التي تسيطر عليها عصابات.

وقال هشام الذهبي لـ"ألترا عراق"، إن "سكن هذه العوائل في منطقة واحدة، تعطي انطباعًا عن وجود مركزية وشبكات تدير عملهم، وما يسهم في مضاعفة هذه الظاهرة هو التقصير والإهمال من الجهات المعنية، بالإضافة إلى غياب قانون حماية الطفولة الذي وفر فراغًا قانونيًا في حماية الطفولة"، مستدركًا "هناك عوامل أخرى تسهم باتساع هذه الحالة، وفي التفكك الأسري، إذ لاحظنا الكثير من المشردين يعانون من أزواج الآباء بعد انفصال آبائهم".

من جهته، يتفق مسؤول في منظمة معنية بالطفولة مع الذهبي بحزئية الاستغلال العائلي للأطفال، لكنه يشير إلى أن "الآباء الذين يستغلون أطفالهم ويدفعون بهم نحو التسول، بحاجة إلى أماكن للعمل، وهذه الأماكن بالغالب تسيطر عليها عصابات، فيلجأ الأب إلى عقد تسوية معها، قد تكون إيجار المنطقة شهريًا أو أسبوعيًا أو إعطاءهم نسبة، لذلك معظم التقاطعات تجد المتسولين فيها أخوة أو أقرباء، فضلًا عن وجود آباء مدمنين على المخدرات أو الكحول فتستغل العصابة هذا العامل وتكون المسألة مقايضة".

ويضيف المسؤول الذي رفض الكشف عن اسمه لـ"ألترا عراق"، "عدد من الحكومات المحلية في بعض المحافظات، عملت على ملاحقة المتسولين، وطرد الوافدين منهم، وتوفير البدائل للآخرين، مما ساهم في انحسار الظاهرة، واقتصرت على الذين يطرقون الأبواب وينتشرون في المناطق السكنية".

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الاتجار بالبشر في العراق.. تورّط مسؤولين في الدعارة وسرقة الأعضاء

عبر 15 شبكة.. استعباد للبشر ببغداد وتجارة جنس في كردستان والجنوب