08-مايو-2021

أولى شروط التغيير هو النظر إلى السياق الاجتماعي المضطرب (فيسبوك)

الإيمان التعصّبي بالديمقراطية يجعل المؤسسات الديمقراطية مستحيلة. برتراند راسل

أغلب المواضيع التي شغلت فكري في السنوات الخمس الماضية، هي كيفية تحويل الحاضنة الشعبية إلى قوة متمكنة سياسيًا من خلال التنظيم السياسي الذي يمثلّها. وكانت عشرات المقالات التي كتبتها على هذا الموقع تتكثّف في هذه العبارة: نظّم نفسك سياسيًا، ولا تستهن بخصومك، ذلك أن خصومك الذين تتندر عليهم هم جماعات عقائدية؛ فكلما بالغت في استفزازاهم وسط بيئة عقائدية تستميت من أجل رموزها، فستظهر اسوأ ما فيها لرد الصاع صاعين، وسواء قبلت أم لم تقبل، فهذه التنظيمات العقائدية تشكّل ما نسميه القوى المهيمنة؛ لديها المال، والنفوذ، والأتباع، وهؤلاء مستعدون للتضحية بحياتهم من أجل الولاء العقائدي. بمعنى أن لديهم القدرة على قلب الأحداث بين ليلة وضحاها. الجيوش، والشهداء منهم، والجمهور السياسي والعقائدي منهم، والسلطات الثلاث منهم، والتشكيلات العسكرية الأخرى، كالحشد الشعبي، منهم، وميليشيات الأحزاب منهم أيضًا. بعبارة موجزة: ليس لك من الأمر شيء.

الإيمان بثنائية الخير المطلق والشر المطلق لا تقتصر على عوام الناس من العراقيين فقط إنما يشترك فيها ممّن نذورا أنفسهم للعمل السياسي

 ما يتوفر لك هو هذا الهامش الذي يمكنك المناورة من خلاله، وأعني به الممارسة السياسية. ولا أحد منّا يتجرأ بالقول من أن العالم وردي، وأنك لمجرد الخوض في دهاليز السياسية ستغير المعادلة. لكن وبما أنك تسعى للتمايز، وتعتقد بأفضليتك على هذه التنظيمات من حيث طرق التفكير والسلوك، فمن دون أدنى شك لن تكون مواقع التواصل الاجتماعي مكانك الصحيح؛ فهذه المواقع، بمجملها، عبارة عن حفلات تفاهة، خيالات جامحة، شعور جماعي مضطرب، حشود من العاجزين عن التغيير، حددوا أنفسهم بحرية التعبير فقط، وهذه الأخيرة، وفي العراق خصوصًا، عبارة عن صيحة في وادٍ، سرعان ما يرتد عليك الصوت، وتخرج من المعادلة خالي الوفاض، كأنك لم تفعل شيئًا سوى التنفيس عن المكبوت، وهذا الأخير سيظهر بقوة حينما يجد الظروف الملائمة ليعيد إنتاج نفسه بشكل أكثر ضراوة. فلا يمكنك أن تغيّر مسار الأحداث لصالحك عن طريق التهكّم، والاستهزاء، والحط من شأنهم. وقد حذرنا عشرات المرّات من هذه التصرفات التي لا معنى لها، وجوبهت هذه التحذيرات بمزيد من التخوين والعداوات التافهة، ولم نحصد منها سوى خيبة الأمل، وقد أعطتنا ردود الأفعال هذه مؤشرًا لافتًا عن حجم التعصب، والحالة المزاجية الحادّة عند كثير من العراقيين؛ فلا ينظرون للأشياء إلّا من حيث كونها خير مطلق أو شرّ مطلق. والمصيبة الكبيرة التي ابتلينا بها، أن هذه الثنائية لو كانت عند عوام الناس فقط لهان الأمر، لكنّها تتعدى هذه الفئات، ويشترك فيها ممّن نذورا أنفسهم للعمل السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: نحن العراقيين

إن أقصى تبرير سمعناه من الجمهور المعارض، هو أننا لا نشبه هذه التنظيمات العقائدية، فلا مكان يجمعنا سويًا (ومن قال لكم عكس ذلك؟!) كما لو أن الكف عن الهستيريا الجماعية، والشعور الجماعي المضطرب يعني بعرفهم الاستسلام أو التشابه مع السلطة! وبهذه الطريقة العاطفية حدد المعارضون أنفسهم بوظيفة العوام الذين لا شأن لهم إلا الصراخ. والحقيقة أن كل ما حلمنا به (والحلم حق!) أن يكون لنا المكان اللائق في العمل السياسي، يتعدى الزعيق، والصراخ، والهستيريا. وكل ما توقعناه (وليته لم يحصل) أن التنظيمات العقائدية لو استشعرت الخطر الوجودي الذي يهدد هويتها سوف لا تقف مكتوفة الأيدي، وستجعل كل خصومها السياسيين بمنزلة الأعداء. وكل ما ثقفنا من أجله، هو أن تجعل بينك وبين خصومك مسافة، لأنك حينما تشارك في العملية السياسية وتحصد بعض المقاعد النيابية، ستجد هذه التنظيمات العقائدية (التي لا تريد التقرب منها) حاضرة أمامك في البرلمان. حتى لو اخترت الانخراط في صفوف المعارضة، فهذه الأخيرة لا تعصمك عن الوجود بالقرب من خصومك السياسيين، فالقضية ليست نزاعًا عشائريًا، وإنما منافسة سياسية تحاول جاهدًا لتقديم كل ما هو خير للمواطن.

حينما تسعى للتغير، فهذا الأخير يستمد أصوله من الواقع وشروطه المعقّدة، وأولى هذه الشروط، حسب فهمي، هو النظر إلى السياق الاجتماعي المضطرب، ذلك أن المجتمع العراقي من المجتمعات التقليدية التي لم يكن لها نصيب من الحداثة سوى شكلها، أما المضمون فهم عكس ذلك تمامًا. مجتمع يسعى للتشبث برموزه الدينية والقبلية، لا يفكر كثيرًا بحقوقه السياسية بقدر ما يفكر بمزيد من الولاء والإيمان برموزه. فحين تتناسى هذه الحقيقة الجلية محاولة منك إثبات التمايز، فستخسر حاضنتك الشعبية، وتحصد الثمار قبل قطافها. ومن ضمن المطبات التي وقعنا فيها (وسيبقى جرحها غائرًا إلى أجلٍ غير مسمّى)، هي الحط من شأن هذه الجماهير العقائدية. ولو كان إضعاف الخصوم والتقليل من شعبيتهم عن طريق التهكّم عليهم والاستهزاء لكانت الأمور وردية! ولو كنت تعلم هذه الحقيقة (أعني بها عدم جدوى هذه الطريقة) وبالغت بالإصرار عليها، فمعنى هذا أنك خرجت من إطار المشروع السياسي وسقطت في فخ المناكدات والأمزجة الشخصية، وهذه نقطة قوة للتنظيمات العقائدية لو تعلم. ذلك أن الجماعات العقائدية تغدو أكثر قوةً وتكاتفًا وحميمية حينما يتعرض وجودها للخطر الوشيك، وتوظف كل معجمها العقائدي للحط من شأنك، ومن ثم تخسر قواعدك الشعبية، وتتخلى عنك بالتدريج.

أما لو كنت تعتقد بصعوبة التغيير، وعدم المشاركة بالعملية السياسية، وصعوبة المشاركة في الانتخابات في ظل هذا الكم الهائل من الميليشيات، والمال السياسي السائب، وأن لا جدوى من الإصلاح، وأن السلطة يتقاسمها الطائفيون، وأن قوتهم تفوقك بأضعاف، فما جدوى هذا الزعيق والصراخ إذن؟! هل تتبنى الإصلاح أم الثورة؟ وعلى فكرة كلا المفهومين لا يبرران لك ما ذكرناه في هذه المقالة. فهل من أمل لإعادة تنظيم الصفوف وأخذ العبرة من الماضي القريب؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تشرين.. قلب واحد وعقول متعددة

من العقيدة إلى السياسة