28-أكتوبر-2020

صار صفاء السراي رمزًا لانتفاضة تشرين في العراق (Getty)

منذ انطلاق الجولة الأولى من الاحتجاجات، وخزان الدم بدأ يتدفق في ساحات التظاهر، والسواد بات يغزو المدن، لكن قافلة الموت لم يتقدم فيها وجه معروف حتى مساء 28 تشرين الأول/أكتوبر 2019، قُبيل غروب الشمس وقرب جسر الجهورية، حين سقط صفاء السراي قتيلًا، وبعد ساعات، تحول إلى أشهر ضحايا الاحتجاجات في العراق، وصار "رمزًا" في كل أماكن التظاهر بالعراق. 

لم تمر أيام حتى تحول صفاء السراي إلى أيقونة انتفاضة تشرين، في كل محافظة خيمة باسمه، فيما نُقش "ابن ثنوة" على الجدران في عموم البلاد

وأخيرًا ترجل صفاء السراي من صهوة الاحتجاج التي امتطاها لثماني سنوات، وانتهت رحلة الاعتقالات والاعتداءات والتضييق التي كان يتعرض لها كما يقول أصدقائه. لم تشرق شمس اليوم التالي بعد قتله، حتى كان متظاهرون يخطون على جدران المطعم التركي أشهر مقولاته "اللقمة بلا شرف كالسكين في الحنجرة"، فيما نفذت وصيته بطواف جثمانه تحت نصب جواد سليم.

اقرأ/ي أيضًا: العراق الذي في عيون صفاء السراي

لم تمر أيام حتى تحول صفاء إلى أيقونة تشرين، في كل محافظة خيمة باسمه، فيما نُقش "ابن ثنوة" واسمه على الجدران في عموم البلاد، القمصان تحتضن صورته، والجميع يتداول منشوراته، والملايين تنعاه في مواقع التواصل الاجتماعي، أمهات وحبيبات وأخوات، حتى أولئك الذين لا يعرفوه. وهنا يبرز السؤال عن انتشار السراي بهذه الطريقة وتقدمه للضحايا، وسيطرته على الوجدان، بالوقت الذي يشهد العراق هيمنة الرموز الطائفية والدينية الذين يتحكمون بالمشهد السياسي للبلاد كذلك. 

التحول إلى ظاهرة

تحول السراي إلى ظاهرة عميقة الانتشار والتأثير في الحراك التشريني، على حد تعبير أستاذ علم النفس السياسي، فارس كمال نظمي، والذي يقول إن "تحليل ظاهرة السراي ينصب على عاملين متفاعلين جدليًا: عامل يتعلق بالبنية النفسية الأساسية للحراك، وآخر يتعلق بوظيفة الحراك الساعية إلى امتلاك شرعية البقاء والديمومة".

وبشأن العامل الأول، قال نظمي خلال حديثه لـ"ألترا عراق"، إن "العامل التفسيري الأول يتحدد بواحدة من أهم الصفات البنائية المفجّرة لهذا الحراك الثوري، إذ استند منذ بدايته إلى إطار سيكولوجي وجودي فرداني لدى الشاب المحتج، اتخذ طابعًا تعبيريًا جمعيًا، بمعنى إنه حراك جماعي عبّر عن تنامي النزعة الفردية الحقوقية غير المؤدلجة بعقيدة سياسية أو دينية محددة، إذ برز الفرد وسط الجموع للتعبير بحدة واستماتة وتضحية عن رغبته الذاتية باستعادة حقوقه في أن يكون مشاركًا في الثروة الاقتصادية والمكانة الاجتماعية والهيبة الوطنية، بعد أن جرى تهميشه طويلًا، فهذه النزعة الفردية الإيثارية جاءت مكرسة لخدمة الخير العام أو مصالح المجتمع أو لاسترجاع وطن، لا لمنفعة مطلبية ضيقة".

وتابع نظمي "وصفاء السراي (المولود في 1993) بتاريخه الاحتجاجي والشعري والشخصي يمثل على نحو دقيق هذا المثال التشريني، أي هذه النزعة الفردية الثورية الشبابية المستميتة الباحثة عن التغيير لصالح المجتمع، حد الاستخفاف الجمالي بالموت وبأي تضحيات جسيمة، دون الحاجة إلى أي تأطير أيديولوجي أو حزبي، فالسراي الذي عُرف داخل ساحات الاحتجاجات بالمتظاهر المزمن أو الأبدي أو المحترف، ابتداءً من انتفاضة جمعة الغضب 2011 مرورًا باحتجاجات 2015 ثم 2018 ، وصولًا إلى تشرين 2019، كان مثالًا ملهِمًا لعدد غير محدود من رفاقه، بزهده وعصاميته وبنزعته الشديدة إلى الحرية والحداثة والعفوية والإيثار والشاعرية الوطنية المفرطة، وبمواقفه المتفردة وغير المألوفة في مناهضة السلطة أيًا كان مصدرها: السياسة أو الدين أو العشيرة، حدّ أنه سمّى نفسه "ابن ثنوة" بالضد من التقاليد الذكورية واعتزازًا بأمه التي أصيبت بعدة سرطانات وتوفيت في سنة 2017".

تطابق بطولي

يشخص نظمي ما يسميه بـ"التطابق البطولي" بين أقوال صفاء السراي وأفعاله، من خلال وصيته لرفاقه بأن يطوفوا بجنازته حول نصب الحرية إذا ما قُتل وأن يدفن جنب أمه ثنوة. وهذا "ما حصل بالفعل إذ جاء مقتله الدراماتيكي المروع برهانًا مؤكدًا وملموسًا على التطابق البطولي بين أقواله وأفعاله، وهو أمر أخلاقي منح الشباب إلهامًا عاطفيًا شديدًا للتماهي برمزانيته. في هذه اللحظة حقق صفاء كارزما الشهيد الذي سيزداد حضورًا وتأثيرًا وحياةً بعد غيابه المفجع".

الحاجة إلى السردية

يعتقد نظمي بحاجة الحراك الاحتجاجي قبل مقتل السراي، لامتلاك شرعية البقاء والديمومة، فالفضاء الاحتجاجي كان بحاجة نفسية عارمة إلى سردية مدنية متينة (في ضوء افتقاره لرصيد عقائدي أو حزبي من الصور والرموز والثيمات البطولية) تمنحه إطارًا يوتوبيًا متفوقًا للاستقواء على الخصم الذي احتكر بهيمنته الثقافية الفضاءَ العام وحولّه إلى إيقونات "مقدسة" تنتج له "شرعية" الحكم وحتى قمع الاحتجاجات، فكان صفاء السراي بسيرته ومواقفه وأشعاره وصوره وملامحه ونهايته المفجعة، يمثل مادة حياتية وذهنية محرضة على صناعة رمز وطني مُلهِمٍ يستطيع الوقوف ـ من بين رمزيات عديدة - بالضد من ترسانة السلطة الغنية جدًا بحكايات ومفاهيم وتصورات تمنحها "أحقية" الوجود والاستمرار.

ويضيف نظمي، أن "قوة هذه السردية/ الأيقونة التي صنعها جزء من الحراك التشريني عن صفاء السراي وحالات أخرى لشهداء آخرين، في مقابل شهداء منسيين، إنما تعزى إلى أسباب عديدة، بعضها يتعلق فنياً بالسياق الزماني والمكاني الذي حدث فيه الاستشهاد، أو بشخصية الشهيد وشبكة علاقاته وتأثيره، أو بدور شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام"، مستدركًا أن "ما يميز قوة أنموذج صفاء السراي، أنه حقق في مخيال الشباب الثوري عددًا مهمًا من القيم والسمات الشديدة الجاذبية، والتي شكّلت باجتماعها أنموذجًا ثقافيًا سياسيًا كارزماتيًا مضادًا وفّر طاقة نفسية شديدة لهم لشرعنة الاحتجاج وأهدافه في التغيير الجذري".

يشخص نظمي مميزات السراي، يقول إن "أنموذج السراي يتميز بتفاعل القيم فيما بينها بطريقة النقائض الجدلية "جديته العالية تجاه آلام الوطن في مقابل مرحه وانبساطه مع الناس، اعتقاده المؤكد باستشهاده في مقابل نزعته السلمية الصافية، شجاعته في المواجهة حد الافتقار للخوف في مقابل عاطفيته الشديدة في أبسط التفاصيل، زاهد يعمل في أبسط المهن في مقابل حمله لشهادة جامعية، واقعيته الناقمة على الفساد والظلم الاجتماعي في مقابل رومانسيته الشفافة حد التصوف".

بنظر نظمي أن "سردية السراي قدمت مثالًا -من بين أمثلة كثيرة- على النزاع الذي اندلع ـ وما يزال - بين المحتجين والسلطة (الثورة المضادة) للهيمنة على الفضاء العام، في لحظة ثورية فاصلة يتنازع فيها القديم مع الجديد على تحديد المصير القادم للبلاد، هذا النزاع بدأ ولن ينتهي قريبًا سواء استمرت الاحتجاجات أو انحسرت، إذ أن جزءًا أساسيًا من الصراع السياسي الذي اندلع في تشرين بات متجسدًا بين أنموذجين أو نمطين ثقافيين، لكل منهما رؤيته في تصور الوجود الاجتماعي وأنساقه السياسية وبناه الدولتية، وكل المؤشرات تؤكد أن ثمة قطيعة نفسية شبه تامة بين الأنموذجين، ما يعني استمرار المواجهة بينهما وتطورها إلى تمظهرات أكثر حدة وحسمًا في المراحل القادمة".

يشخص فارس كمال نظمي ما يسميه بـ"التطابق البطولي" بين أقوال صفاء السراي وأفعاله. إذ جاء مقتله الدراماتيكي المروع برهانًا مؤكدًا وملموسًا على التطابق بين أقواله وأفعاله

وفي السياق، يعزو الباحث علي عبد الكريم  تحول السراي لأيقونة إلى "ارتباطه المباشر بالهم العام الذي حرك الجماهير للخروج إلى ساحات الاحتجاج، وكان استشهاده مصداقًا على كل ثوريته والشعارات التي يؤمن بها، وهذا الاحتفاء الذي لاحظناه هو جزء من رد معنوي تجاه جوده بروحه وهي أقصى غاية الجود كما يقولون".

اقرأ/ي أيضًا: حوار| سنان أنطون: صفاء السراي من أسماء العراق الحُسنى

يضيف عبدالكريم لـ"ألترا عراق"، أن "وجود الرمز في الثورات أمر ضروري، هو أفضل أدوات تخليدها عبر التاريخ، ولا يعتبر التركيز عليه، نسيان الآخرين، بالعكس هو حفظ لهم بواسطة استذكار الرمز الذي يعني ضمنًا استذكار القضية التي ضحى من أجلها"، لافتًا إلى أن "الرمز يزعج الجهات المضادة للثورة، وتعتبره استهدافًا لها، لما يساعد على التحشيد ضدهم، لذلك نشاهد الهجمات التي تعرض لها السراي والتدخل بحياته الشخصية".

ويتابع عبد الكريم، أن "تمكن صفاء عبر فيسبوك من توثيق مواقفه التي تلامس قلوب الجميع، تجده يبعث رسالة للحشد الشعبي، ويتحدث عن النازحين والقضية الحسينية، اختياراته الموسيقية ناضجة، هذه العوامل ساعدت بحجز مكان لصفاء داخل كل بيت، وبالتأكيد هذه المكانة والتاريخ لم يأت من فراغ، هو نتاج إيثار وعطاء وإيمان بالقضية".

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

صفاء السراي.. هذه قِبْلَتنا

نيويورك تايمز تحتفي بـ "ابن ثنوة".. هل هذا أنت يا صفاء؟