04-ديسمبر-2019

النقد الذي يتجاهل الشروط الاجتماعية للعيش ليس أكثر من هواء في شبك (Getty)

"القراءة النرجسية قراءة ذاتية إرادوية تعدم النص.. فهي لا تلتزم بإملائه بل بإملائها" – جورج طرابيشي. 

تتصاعد حمّى التغيير هذه الأيام بين أوساط الشباب الثائر ضد سلطة الخضراء، وعلى ما يبدو أن شجعان انتفاضة تشرين عازمون على المطاولة وإدامة زخم الاحتجاج حتى تحقيق مطالبهم المشروعة. وهي تغيير البنية الفاسدة لهذا النظام الذي أوغل في الاستهتار والتلاعب بثروات البلد، عبر الفساد المروّع الذي لم يشهده تاريخ العراق الحديث، لا بل لم يشهده العالم، ومن المعلوم أن الرغبة بالتغيير ما لم تكن واعية بالشروط والمواضيع التي على الفكر أن يرتبط بها، فهي ستبقى مجرّد رغبات، أو نزاعات داخلية لم تصل لمرحلة النضوج الفعلي لفهم الواقع.

 نطمح كثيرًا بتغييرات جذرية، لكن بلا أدوات لهذا التغيير، ونرغب بالحرية والديمقراطية، لكن، بلا أحزاب ديمقراطية. بتعبير أدق: نحن ديمقراطيون تجريديًا، وعدميون واقعيًا

طبعًا لا أعني رجال التغيير، هؤلاء المنغمسون في قضايا هامشية، ويركّزون كفاحهم على النيل دائمًا من الطبقات الفقيرة كونهم (الفقراء) لا يدركون مصالحهم، ولا يؤمنون بالفردية. أو، ربما، لأن الفقراء لا يروّحون عن أنفسهم في أحد مصايف إقليم كردستان أو تركيا، أو الاسترخاء في أحد فنادق بيروت. إن هذا الفصيلة المتعالية عن فهم الأحداث، خاطبهم ماو تسي تونغ، كما يذكر أحد الكتّاب، وذكّرهم بحقيقة مفادها، وهي أنكم ستفشلون في التغيير، ولا يمكنكم التقدم خطوة واحدة، لأنكم، وببساطة شديدة، تشتمون الشعب، وبدون هذا الأخير ستفشلون فشلًا حتميًا، بمعنى، أن المادة الأساسية في التغيير هو الشعب، فلا يمكنكم شتمه والتقليل من دوره، ومن ثمّ تلتجئون إليه في عملية التغيير.

اقرأ/ي أيضًا: خصومات مزمنة ومعارك ذهنية

فالمعنيون هنا، هم المؤمنون بعملية التغيير وقوّة الجماهير في إحداث التغيير، وإن كانت قوّة الجماهير لا تحتاج إلى إيمان، فهي حقيقة واقعة. غير أن الجماهير لوحدها تغدو جسدًا بلا رأس، عجلة بلا مقود، حشد هائل من الرغبات والأمنيات، ومن ثم تسقط في هوّة عميقة ومظلمة اسمها الإحباط. بل أكثر من ذلك، سترتطم بقوّة مضاعفة، وهي الدكتاتورية المضادة. وعلى الرغم من كل هذه التحديات لا زلنا أسارى تلك الرغبات. المهم في الأمر، لا أناقش أمر التنظيم وضروراته الملّحة، فقد ذكرته في أكثر من مقالة. ما يهم هنا، هو متى ننتقل من طور الرغبات الحالمة، إلى طور التحقق الفعلي، من خلال فهم تحديات الواقع وإمكانياته.

الكثير من القضايا التي نفكّر بها، هي عند التحليل الأخير ليست سوى أحوال نفسية. بمعنى، إن الرغائب هي من تحدد الوقائع لا الفكر، فتتحول الرغبة إلى مقولة فكرية. فعملية الضخ المتواصل واستدعاء نماذج مفصولة عن واقعها تقودنا إلى عملية تأويل للفكر. أي أن الفكر يتطور بمعزل عن موضوعاته الخارجية. بتعبير أدق، إن الآليات السحرية، هي تغيير للفكر وليست تغييرًا للواقع. على سبيل المثال، نطمح كثيرًا بتغييرات جذرية، لكن بلا أدوات لهذا التغيير، ونرغب بالحرية والديمقراطية، لكن، بلا أحزاب ديمقراطية. بتعبير أدق: نحن ديمقراطيون تجريديًا، وعدميون واقعيًا؛ لأننا انشغلنا بتغيير الفكر فحسب بمعزل عن الواقع.

إن أغلب ما نشاهده، وبالخصوص في مواقع التواصل الاجتماعي، يعبّر في الغالب عن أهواء وصور رغبية تساهم في فصل الفكر عن موضوعاته. فلنأخذ جولة ميدانية في المقاهي والصالونات الثقافية ومجالس شارع المتنبي، سنجد، على سبيل المثال، إن الدين يحتل، غالبًا، صدارة خطابنا النقدي، وعادة ما يكون هذا الخطاب مصحوبًا بأمنيات جامحة بعبور الخطاب الديني الذي تتستر به أحزاب السلطة، غير أن الواقع يقول عكس ذلك، أي أن المؤسسات الدينية الراسخة وبجمهورها الواسع، وبرموزها الدينية ذات التأثير الروحيّ العميق، لم ينال منها هذا الخطاب النقدي المزعوم. والأمر، ببساطة شديدة، لأن المؤسسات الاجتماعية والدينية القديمة، تبقى راسخة وعميقة الجذور ما لم تقابلها مؤسسات مدنية. بتعبير أدق، أن هذا النقد الفضفاض ليس أكثر من هواء في شبك، لأنه تجاهل الشروط الاجتماعية للعيش، وتجاهل التنظيمات الديمقراطية التي يمكنها، في المستقبل أن تقوم بعملية التغيير السياسي، الذي يتبعه تغيير اجتماعي.

وعلى هذا المنوال، وبعد التحليل الأخير، سنجد إننا نعاني من عصاب، ذلك إن العصاب، بحسب جورج طرابيشي، هو آلية لتشكيل الذات وليس تشكيلًا للعالم. إن الذات تضع نفسها في دوّامة نرجسية مدوّخة يصل بها الأمر أن ترى نفسها أكثر أهمية من الآخرين، فتغدو هذه الذات فاقدة للشرط الجوهري للتغيير، وهو فهم الواقع. فالصحوة التي نحتاجها، أن نستيقظ من هذه الآليات السحرية، وأن ندرك إن الاهتمام بالذات لا يمكنه أن يكون ما لم يرتبط بالآخر، وإن التغيير الذي يطال الفكر فحسب من دون الارتباط بموضوعاته الخارجية، فهو عبارة عن رضّة نفسية مؤلمة تجعلنا ندور في فلك الهذيان.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

التنظيم السياسي.. وقاية من الدكتاتورية المضادة

العقل الجمعي يقدّم الدروس للمثقف العراقي!