29-نوفمبر-2020

السلطة وجمهورها مصرّة على تغييب كل أشكال المعارضة السياسية (Getty)

حينما ننتقد الوضع السياسي القائم لا نأتِ بشيء جديد. وكأن لسان حال السلطة يقول: هذه بضاعتنا رُدّت إلينا! أعلى أشكال النقد في وضعنا الحالي هو إيجاد البديل السياسي الموازي. ما لم يفضِ للنقد إلى نتائج عملية مثمرة فهو لا يعدو كونه تنفيس عن المكبوت. تغيير الأفكار لا يستتبع بالضرورة تغيير الواقع، ما لم تتغير الشروط التي أوجدت هذا الواقع، والمقدمة العملية لتغييره هي العمل السياسي بلا شك. فانتظار التحولات الاجتماعية يعني انتظار مزيد من خيبات الأمل. معظم فعاليتنا السياسية - كالتظاهر في ساحة التحرير، والكتابة في مواقع التواصل الاجتماعي - لا تتعدى ممارسة حرية التعبير، ولم تخرج من هذه الجزئية على الإطلاق. على سبيل المثال: لو قُدّر لأي احتجاج سياسي النجاح في مساعيه لـ"تغيير النظام"، أو تغيير السلطة الحالية على الأقل، فما السيناريو الذي يمكن أن نتخيله في ظل وضع سياسي لا تتوفر فيه بدائل سياسية تنظيمية من قبل المحتجين أنفسهم؟

يعاني الحراك الجماهيري دائمًا من شلل تام في أي تغيير سياسي، لأنّه يبدأ بالحماس وينتهي بالحماس

مشكلة بعض الفئات الاجتماعية في البلدان الطرفية، أنها في عالم والوضع القائم في عالم آخر. أتذكر هنا كلمة لماو تسي تونغ موجهة إلى المثقفين الصينيين المتأثرين بالحضارة الغربية، والذين كانوا يتمنون دولة صينية على الطريقة الغربية؛ ديمقراطية ليبرالية، انتخابات دورية، اقتصاد سوق مفتوحة.. الخ. كان ماو يخبرهم دومًا بهذه الحقيقة، أنتم عاجزون عن التغيير، لا يمكنكم أن تحركوا ساكنًا، لأن الأمر ببساطة شديدة هكذا: من يسعى للتغير حقًا فسيحتاج كل فئات الشعب، بتعبير أدق يحتاج إلى حاضنة شعبية مؤيدة للتغيير، وتضع يدها بيد القوى الاجتماعية التي تضع على عاتقها مشكلة التغيير وتحدياته.. لكنّكم، والكلام لماو، تشتمون الشعب.

اقرأ/ي أيضًا: جدلية الفكر والواقع

في السياق العراقي، اتخذت بعض الفئات المثقفة جانب الحياد، أو جانب السكوت؛ فالقسم الأول منهم محبطون بسبب خيبات الأمل المتواترة، وطغيان الحس الشعبوي المدعوم بقوة الميديا. وهم على حق في ذلك. أما القسم الثاني، فيؤسسون لظاهرة ما أستطيع أن اسميه "مجاملة الرأي العام"، والانسياق مع الطروحات الرغبوية، لا لأجل الجمهور، وإنما تحقيقًا لتميّزهم. لا نستغرب حينما نسمع دعوات من قبيل حقوق المرأة، وقانون العنف الأسري، وغيرها. ليس لأنها مبادئ مرفوضة، بل هي من صلب البناء الاجتماعي، ولا يمكن لأي حركة تقدمية أن تتجاهل هذه المطالب. لكن حينما تتحول هذه المطالب إلى دعوات للتميز، فمن هنا نفهم، أن عموم الناس، بما فيهم بعض المثقفين، لا يهمهم التغيير الاجتماعي، ولا يهمهم النظر الدقيق والمتفحص والموضوعي بالشروط المعقدة للوضع العراقي، بقدر ما يهمهم مصالحهم الفئوية والشخصية، والشعور بالتميّز.

لذلك يعاني، دائمًا، الحراك الجماهيري من شلل تام في أي تغيير سياسي، لأنّه يبدأ بالحماس وينتهي بالحماس. ونحن نعلم أن أي تغيير مُحتمل لا يمكنه أن يحدث ما لم نتحوّل إلى فاعلين سياسيين حقيقيين، ذلك أن ساحات الاحتجاج "تكتيك" مهم، لاستقطاب أكبر عدد من الشرائح الاجتماعية لصالح قضية الحراك الاحتجاجي، غير أن التكتيك وحده لا يكفي، خصوصًا إن كانت الدوافع نحو التغيير. فالمشاورة والنقاشات المستمرة والتقارب في وجهات النظر يفضي في نهايات المطاف إلى صيغة تضامنية ينتج عنها لاحقًا قوة سياسية تمثل الحراك الاحتجاجي. هذا إن كنّا نريد التغيير، فالأدوات معروفة ولا تحتاج إلى عناء تحليلي جمل فلسفية مركبة.

لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يفتح بوابة الاستنزاف على مصراعيها؛ فالسلطة وجمهورها مصرّة على تغييب كل أشكال المعارضة السياسية، وتستخدم كل الطرق المتاحة، (وتعني كلمة "متاحة" في السياق العراقي الموت المجاني!)، لتحقيق أهدافها. هل هذا خافِ على أبسط فرد عراقي؟ لا أظن ذلك، فخطاب السلطة واضح وجلي: أن نتمسّك بالسلطة  بكل الطرق الممكنة، وليس مهمًا أن نقدم شيئًا إلى ناخبينا فهم قانعون زاهدون. فلا أرى أي انفراج يلوّح في الأفق بخصوص الحراك الاحتجاجي فيما يخص العمل المؤسساتي، وما يكشفه سير الأحداث يعزز هذه الحقيقية. التنظيم، العمل المؤسسات، الأواصر المتينة بين المحتجين، أمر صعب، وسيتعرّض لتحديات جسيمة بالتأكيد، لكنه ليس أكثر ترويعًا من سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

المعارضة "اليتيمة"

الجمهور السعيد