30-مارس-2023
السوداني ورمونسكي

لا يصح بالسياسة سوى المنطق العملي (فيسبوك)

"أنا هنا لإعادة التأكيد على الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق فيما نمضي قدما نحو عراق أكثر أمنًا واستقرارًا وسيادة". وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن.

لماذا يشعر بعض الموالين للحكومة بالإحراج نتيجة التقارب الأمريكي العراقي هذه الأيام، لدرجة أنّهم عقدوا كرنفالات كبيرة في مواقع التواصل لتبرير هذا التقارب، في حين شذ القليل منهم للتنديد بهذا التقارب، وهم لا يمثلون الخطاب الرسمي بالتأكيد، كما لو أنهم ارتكبوا جريمة نكراء؟

 متى كانت الحكومة الحالية معادية للولايات المتحدة لكي تحدث كل هذه الضجة من التهكم على قادة "الإطار التنسيقي"؟ القوم هم أنفسهم، وإن بعناوين مختلفة، حكموا عراق ما بعد 2003؛ ابتداءً من المالكي ووصولًا إلى رئيس مجلس الوزراء الحالي، لم تكن لهم علاقات متوترة، بل لم يكن خيار الممانعة مطروحًا على الطاولة.

لا يستقيم منطق الشعارات مع منطق الممارسة السياسية

العراق "الجديد" تشكّل بموجب احتلال الولايات المتحدة للعراق، وتم من خلاله إزاحة الحرس القديم لدولة البعث على يد المحتل، وجرت كتابة الدستور وسن القوانين تحت مظلته العسكرية والسياسية، واستأنف النظام الجديد وظائفه الحكومية استنادًا إلى هذه الشرعية، وعقدت اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين الطرفين، علمًا أنه يجوز لأحد الطرفين إلغاء الاتفاقية، لكن لا أحد، لا الفصائل المسلحة التي تجاهر بعدائها للولايات المتحدة، ولا الأحزاب والتنظيمات الكبرى كحزب الدعوة وبدر وغيرهما، أقدمت على رفض وإلغاء هذه الاتفاقية.

معلوم أن الفصائل المسلحة الموالية لإيران، اتخذت من التنديد والمقاومة للمحتل شعارًا لها، بيد أنها "مقاومة" يمكن اعتبارها حجة ظاهرية، أما في العمق، فلسان الحال يقول: اختلاف الرأي لا يفسد من الود قضية.

صحيح أن العلاقة بين الحكومة الحالية والولايات المتحدة لا تتمتع بالعمق الكافي، حيث لا زالت المعادلة كالآتي، كما يقر بها الأمريكان أنفسهم: محاولات خجولة لترضية الولايات المتحدة، وتقارب عميق مع إيران. لكن السفيرة الأمريكية آلينا رومانسكي تتمتع بنفوذ سياسي كبير في العراق، وأعني بالذات حكومة الإطار التنسيقي، وزياراتها المكوكية لمعظم المسؤولين العراقيين خير دليل، وكان آخرها الزيارة غير المعلنة لوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، لطمأنة المجتمع الدولي (وطمأنة المسؤولين العراقيين) عن استمرارية العلاقات العراقية الأمريكية، والتأكيد على الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.

أوستن في بغداد

على عكس ما يظن الجمهور الخجول، هذه فرصة للاعتراف بجوهر العمل السياسي، وهو المصالح وتحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة للصالح العام، والاعتراف أن العقيدة لا تنسجم مع الممارسة السياسية.

أكرّر مرة أخرى، لا يعني أن كل العقائديين منافقون، فالكلام لا يشير إلى النوايا الحسنة، بل يشير إلى طبيعة المنطق السياسي الملائم لبناء الدولة. والقضية لا تحتمل الكثير من المزايدات والشعارات الفارغة.

وإذا صدقت الجماهير في فترة معينة جدية بعض التنظيمات الإسلامية المناوئة للسياسة الأمريكية، فهي الآن تتمتع بوعي كافٍ -كما نأمل- لتحديد الوظيفة الجوهرية للسياسة، وربما لن تسمح بالمستقبل لمرشحيها من استخدام هذه الورقة البائسة مرة أخرى. أقول ذلك مع الحرص على عدم الانجرار وراء التفاؤل المفرط.

هذه الحقيقة لا يريد أصحاب المزادات السياسية والمصابون بأحلام اليقظة الخضوع لها، وهي أن العالم تسيّره القوى الكبرى، ومن الصعب للغاية أن تستخدم معها منطق الفهلوة والتذاكي (كان غيرك أشطر!). فتأمين مصادر الطاقة يتفوق بإضعاف على كل الشعارات الفارغة.

ما دام العراق أحد مصادر توريد الطاقة المهمة، وبالخصوص بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لا تهتم الولايات المتحدة كثيرًا بممانعة السلطة (إن وُجِدَت)، فسيكون البديل حاضرًا، مثلما فعلوها مع عمران خان. ويبدو أن السلطة في العراق تدرك ذلك جيدًا ولذلك لم نسمع بيانات رسمية للشجب والاستنكار لـ"مؤامرة أمريكية".

تاريخنا العراق السياسي هو تاريخ الفرص الضائعة، تاريخ الدم والدموع

 المهم في الأمر، أنت بوصفك سياسي، عليك أن تبحث عن إمكانية تحسين نوعية الحياة لناخبيك، وأنت كسلطة حاكمة، عليك أن تفكر بالخير العام لشعبك، أما الشعارات يمكنك أن تهذي بها في مكان آخر. وستخضع في نهاية المطاف رغمًا عنك مثلما تفعل الولايات المتحدة الآن.

 لا يستقيم منطق الشعارات مع منطق الممارسة السياسية؛ أنت ليس أقوى من هتلر، وستالين، وموسوليني، ومن هم أصغر من هؤلاء، أمثال صدام حسين، والقذافي، فقد قذف بهم التاريخ إلى مكان سحيق.

 فسواء كانت نواياك نبيلة أو منافقة، فلا يصح بالسياسة سوى المنطق العملي، أما إذا كنت تصدق نفسك (وهذه مصيبة) فسيرغمك منطق الأحداث على الانخراط بما يمليه واقع الأمور رغمًا عنك.  فقط أنظر إلى الأنظمة السياسية التي رفعت لواء الشعارات أين وكيف انتهى بها الحال. سواء قبلنا بهذه الحقيقة أم لم نقبل: العالم يحكمه الأقوياء.

القضية لا تحتاج مشورة حكماء: العاقل يستوعب الدرس، ويأخذ العبرة، هذه المسالة ببساطة. لكن التعقيد يكمن هنا: من ذلك الشجاع الذي استوعب الدرس وأخذ العبرة إلا بعد فوات الأوان؟ للأسف الشديد، أن تاريخنا السياسي هو تاريخ الفرص الضائعة، تاريخ الدم والدموع.