02-مايو-2020

ثقافتنا تنتصر للجماعة والرمز وتحتقر المجتمع القائم على علاقات عقلانية (فيسبوك)

حينما تشعر الجماعة ثمّة خطر يهدد وجودها تستخدم شتّى الطرق الدفاعية للحفاظ على هويتها حسب الظروف المتاحة لها. أيًَّا كانت نسبة هذا الخطر حتى لو كان خطرًا نظريًا! فستلجأ للاستعانة بذات الآليات النظرية التي يستخدمها الخصوم. وستضيف الجماعة آليات جديدة لهذا الجدل المحموم: وهو التخوين الذي يتقاطع مع قيم المجتمع، فيتعرض الخصوم لأقصى حالات النبذ والإقصاء الاجتماعي. لأن المنطق والعلاقات العقلانية لا يندرجان ضمن الوسائل المُحَبّبة لدى الجماعات. ذلك أن سلوك الأفراد، بعمومه، في المجتمعات التقليدية لا تحركه المصالح العقلانية بل يندفع، لا شعوريًا، للانتماء للجماعة للحفاظ على ذاته الممزقة والتي لا تجد عونًا لها إلّا بالدخول في هوية جماعية تعوّض حالات الفقدان في مجتمع لا يقيم وزنًا للقوانين المدنية بقدر ما يضفي شرعية وقداسة للولاءات الفطرية والوجدانية.

الانتماء إلى الجماعة يضمن الحماية الكافية ويستبدل حالات الضعف والضياع وسيغدو كل منظور معرفي خارج إطار هذه الجماعة هو بمنزلة الخطر الوجودي الذي يهدد كيانها

العشيرة والمذهب والعائلة هي من تمتلك أدوات القوة والنفوذ وليس العكس؛ فالانتماء إلى الجماعة يضمن الحماية الكافية ويستبدل حالات الضعف والضياع. ومن هذه الناحية سيغدو كل منظور معرفي وكل قيمة خارج إطار هذه الجماعة هو بمنزلة الخطر الوجودي الذي يهدد كيانها. فعليها أن تذود عن مبادئها حينما تستشعر الخطر والتهديد، بل عليها أن تبالغ وتضخم حجم التهديد لانتهاز الفرصة  المواتية لترميم التصدعات التي قد تحدث داخل الجماعة. فنحن لا ننتظر حوارًا عقلانيًا يوحدهم بقدر ما تغدو التهديدات المًتَخَيّلة فرصة ذهبية للاصطفاف من جديد والتلاحم للم الشمل، مثلما يحدث داخل العشيرة أو أي هوية جماعية.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا نتغيّر؟

إن المنطق العقلاني ووسائل الإقناع المستمرة التي تحاول التشكيك في دعائم الولاء المتينة للهوية الجماعية، وتسخر من تضامنها الصلب سيرفع من مؤشر الخطر الوجودي ويضعها في حالة نفير عام، وستحشد كل طاقتها وإمكانياتها المتاحة، وندخل على أثرها في دائرة الجدل المغلقة والتخوين المتبادل من كلا الطرفين. فالمنطق الجدلي يحمل في طيّاته الإثبات والنفي، يعني ما استخدمه تجاه خصومي من حجج منطقية صارمة، ذات الحجج سيرجعونها لي، حتى لو كان هذا المنطق لا يحظى باستخدام الجماعة، لكنّ الجماعة تستخدم عبارة "من فمك أدينك" للبحث عن فجوات منطقية في خطاب الخصوم، وبالطبع ستجد الكثير من الثغرات ما دامت الخصومات نظرية فالعثرات موجودة، خصوصًا إن لم يكن خطاب الخصوم متماسكًا بما يكفي. بل حتى لو كان متماسكًا، سينتقل الجماعة لخطاب النبذ والإقصاء، كما قلنا، لكي يخسر الخصوم حاضنتهم الشعبية في المستقبل. فالمنطق سلاح احتياطي تستخدمه الجماعة عند الحاجة لأنه ليس من أولوياتها، لكنّ التخوين والنبذ والاتهامات الأخلاقية هي من تميّز خطاب الجماعة تجاه الخصوم وتهديدهم.

وهذا ما نشهده حاليًا من جدل محموم الذي أثارته انتفاضة تشرين وتداعياتها المؤلمة؛ إذ صعّدت هذه الانتفاضة من حماسة المعارضين لها من الجماعات الدينية لأسباب يعتقدونها تجري بالضد من قيمهم. لكن التحليل المتأنّي لسير الأحداث يظهر أن الخطر الوشيك الذي استشعرته هذه الجماعات هو التهديد الوجودي لهويتها من قبل أفراد لا يتخذون من الولاءات المذهبية والعشائرية هوية لهم. فما على الجماعات سوى الاستعداد لهذا الخطر الوجودي والرد بالمثل للبرهنة على هشاشة خصومهم، فيدخل الطرفان في معارك ذهنية لم تنتهِ حلقاتها حتى هذه اللحظة. ولذلك شهدنا اتهامات وتخوينات تعتبر مشاكل اجتماعية خطيرة في مجتمعاتنا؛ كالزنا واللواط وحب الغلمان، حيث كانت هذه الأمور في سلّم الاتهامات التي تعرض لها خصوم الجماعات الدينية. فمن يستفز رمزًا دينيًا فعليه أن يدفع الثمن، كما حصل بين السيد محسن الحكيم وشباب الحزب الشيوعي الحماسيين أكثر من اللازم.

 كل شيء يمكنه أن يدخل في خانة النسيان إلّا استفزاز الرموز المقدسة، فستقف الجماعة موقف المحارب الشرس مهما كلّفها ذلك من خسائر، ذلك إن التاريخ يخبرنا أنه حدث هذا الأمر مع الحزب الشيوعي الذي لم يحسب حساب للقوى الدينية آنذاك، ودفع التهور بعض الشباب الحزبيين للتهكّم على زوار المراقد المقدسة، فكانت فتوى "الشيوعية كفر وإلحاد" السكين التي غُرست في خاصرة الحزب الشيوعي فأصابته بمقتل. وهذا ما لا نريد فهمه، بل لا نأخذ العبرة من التاريخ، ونتنصر لرغباتنا على حساب فهم الواقع فهمًا عقلانيًا كما لو أننا في أعرق المؤسسات الديمقراطية!

كل هذا يحدث وسط ثقافة لا تؤمن بالحوار وتنطبق عليها حالة ما قبل الدولة. فلاشيء يثير الضحك والاستياء أكثر من هذا الجدل الفارغ، لأنه لا يستند على حجج عقلانية، وإن عثرنا على بعض منها لدى الطرفين فتبقّى هذه الجزئيات هواء في شبك. الحجج العقلانية هنا لا تعدو أن تكون ديكورًا مبهرجًا سرعان ما يتهاوى عند أول تجربة ونكتشف أن الطرف المهيمن يمتلك كل أدوات القوة وهو المشرف الوحيد، في العراق طبعًا، على إنتاج الحقيقة. وسيضع في سلّم أولوياته قيم الجماعة التي تتفوق على كل مفردات الأمن الوطني! فالجدل الذي نراه استطيع أن أوصفه بالمذبحة! مذبحة من الجدل العقيم الذي يفضي إلى القاع المظلم. وستكون ضحاياه من قبل الطرف الأضعف بكل تأكيد.

إن ثقافتنا، ولأسباب موضوعية كثيرة، تنتصر للجماعة والرمز وتحتقر المجتمع القائم على علاقات عقلانية، فالحل الأفضل أن تنتهي معاناة الجدل هذه، على الأقل من طرف واحد. ومن يرى لا منطقية هذا الحل، فليسأل هذا السؤال: هل استطعت أن أقدم ثمرة عملية بهذا الجدل الفارغ؟ وإذا كان هذا الجدل الفارغ يستفز الجماعات المهيمنة على المشهد السياسي والاجتماعي، وأنا لا املك الحلول اللازمة (لحماية نفسي على الأقل!). فهل من العقلانية أن أستمر بهذا النزيف؟!

صعّدت انتفاضة تشرين من حماسة المعارضين لها من الجماعات الدينية لأسباب يعتقدونها تجري بالضد من قيمهم

ما لم تتوفر الشروط اللازمة للحوار فسيفتقد الجيل الحالي الحاضنة الاجتماعية التي تدعم توجهاته، وبالطبع إن الشرط الجوهري هو وجود مجتمع مدني يوفر المناخ اللازم لتعميق هذا الحوار بين المختلفين، وما عداه، فهو أقرب لمعارك تصفيات الحساب منه إلى الحوار المنتج. وستكون النتائج محسومة سلفًا: وهو انتصار الجماعات وترسيخ هيمنتها على المشهد السياسي والاجتماعي، بينما يخسر خصومهم مواقعهم الأولى التي وفّرتها لهم الانتفاضة. إن نختلف مع الآخر بوصفه فاعلًا سياسيًا فقط، ولا نتعدى هذه الخصومة ونتورط للدخول في السمات الشخصية لهذا الرمز أو ذاك، فقد يهدد هذا السلوك أمننا الشخصي، خصوصًا في بلد يفتقر للضمانات الكافية للأمن الشخصي! ويشهد وضعه انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: القراءة والحرية

وبالطبع لا ننسى حقيقة جلية تعكس لنا سعة هذا الجدل ومدى فاعليته على أرض الواقع، إذ سنجد الحصة الأكبر منه في مواقع التواصل الاجتماعي. لذا أعتقد، ومن باب امتصاص الهستيريا الجماعية التي تحدث في مواقع التواصل، ثمّة مساحات كبيرة وشاغرة يمكننا أن نمليها لتعود المنفعة لنا وللآخرين بدلًا من الدخول في هذه الدوامة التي تضاعف معاناتنا، وتساهم في إضعافنا وتقوّض كل إمكانية تصب في صالحنا. أما إذا كانت الدوافع هي الشعور بالتميّز والشهرة والهروب من مشاكلنا الحقيقية فلا يوجد عندي جواب!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رياح الحرية والقيم الراسخة.. هل مياهنا راكدة؟

نضال التغيير ضد حماة "الأعراف المقدسة"