23-نوفمبر-2019

النظام الذي تنعته أمريكا بـ"الفاسد" هي من بنى ركائزه الأساسية (Getty)

لحظة رؤيتي لتصريح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، والذي قال فيه "المسؤولون العراقيون فاسدون ويجعلون الشعب العراقي يعاني"، تبادرت إلى ذهني لحظة تأسيس النظام القائم بالأيادي الأمريكية التي ما زالت متلطخة بالدم العراقي، كذلك، الأرقام المرعبة التي خلّفها الخراب الأميركي بعد غزو 2003. هذه الأرقام التي أراها في وجه كل مسؤول أمريكي لحظة خروجه على شاشات التلفاز.

هذا النظام الذي تنعته أمريكا بـ"الفاسد" هي من بنى ركائز فساده الأساسية، عبر تأسيس نظام المحاصصة العرقية والطائفية لا على أساس المواطنة

نحن نعلم علم اليقين بأن هذا النظام الذي تنعته سيدة الخراب الأولى -أمريكا- بالفاسد هي من بنى ركائز فساده الأساسية، بنتها عبر تأسيس نظام المحاصصة العرقية والطائفية لا على أساس المواطنة، والقوى السياسية "المتحاصصة"  التي رسمت لها أمريكا خارطة الطريق هذه كانت على الدوام متصارعة على السلطة والنفوذ والمال، وكانت دائمًا ما تستقوي بالقوى الخارجية، وتستعين بها لحفظ حصصها، وهذا أنتج دولة عراقية ضعيفة تُغري بالتجاوز على سيادتها واستقلالها، فالحكومة كانت على الدوام شبه مشلولة بفعل الصراعات والمنافسات على المناصب والامتيازات، وفي مقدمتها امتيازات عقد الصفقات المدّرة أموالًا طائلة، فتسرّبت مئات مليارات الدولارات من موازنات التنمية إلى خزائن الأحزاب المتنفّذة، ومعظمها إسلامية، وإلى الحسابات الشخصية لقياداتها خارج العراق.

اقرأ/ي أيضًا: حرب الملفات المسربة.. لا تخص العراقيين!

أمريكا، التي تدّعي اليوم مساندتها للمجتمع العراقي عبر الدفع الوهمي بتحقيق مطالبه المرفوعة أثناء الاحتجاج الحالي، هدمت في وقتٍ سابق طبقات هذا المجتمع. لم يكن استهداف الطبقة الوسطى المتخصصة "أطباء ومهندسون ومحامون صحفيون ومعلمون وقضاة... الخ"، في المجتمع العراقي من قبل الاحتلال الأمريكي استهدافًا عبثيًا، حيث كان لهذه الطبقة الجزء الأكبر من تفعيل الشأن الحيوي في تشغيل آلة الدولة والاقتصاد وبناء الثقافة العراقية.

نحن العراقيين لا ننسى الفرمانات الـ97 التي أقرها الحاكم المدني للعراق بول بريمر أبان الغزو والتي ألقت 15.500 باحث وعالم ومدرس وأستاذ جامعي إلى البطالة بحجّة قانون "اجتثاث البعث".

دعونا نتحدث بلغة الأرقام أكثر، بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش "قتل قرابة 370 معلم مدرسة في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2006، كما قتل ما لا يقل عن 2.000 طبيب عراقي وخطف 250. وفي الفترة بين شباط/فبراير وتشرين الثاني/نوفمبر من عام 2006 قتل 180 مدرسًا بحسب معهد بروكينغر في واشنطن. ويفيد تقرير الهيئة الطبية الدولية (IMC) أن عدد المدرسين في بغداد أنخفض 80 في المئة، ويعتقد التقرير أن أكثر من 40 في المئة من الطبقة الوسطى العراقية هربوا خارج البلاد. ومن أصل 34.000 طبيب عراقي هرب 18.000 ألف وقتل 2.000. كما أن الأطباء والصيادلة الذين تركوا العمل وصلت نسبتهم قرابة 75 في المئة بحسب التقرير. وذكرت صحيفة لوس انجلس تايمز في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2008، أن من أصل 6.700 أستاذ جامعي هربوا من العراق لم يعد منهم إلا 150 أستاذًا.

بالإضافة إلى ذلك، أكد التقرير الصادر من معهد القيادة الدولية التابع لجامعة الأمم المتحدة في الأردن في عام 2011 ، تعرض قرابة 84 في المئة من مؤسسات التعليم العالي في العراق للحرق أو النهب أو التدمير في ظل الاحتلال.

الباحثان مايكل أوترمان وريتشارد هيل وبول ويلسون ذكرا في كتابهما الشهير "محو العراق: خطة متكاملة لاقتلاع عراق وزرع آخر" نتائج ثمانين شهرًا من الاحتلال الأمريكي للعراق. يذكرون فيه إحصائيات عن استشهاد 1,200,000 عراقي بينهم 2,610 من العلماء والأساتذة ممّن قُتلوا بدمٍ بارد، فضلًا عن 341 صحفيًّا. كذلك هجرة داخلية لـ 2,000,000 عراقي. وأيضًا لجوء 3,000,000 عراقي إلى دول أخرى، كل هذه الأرقام أراها في وجوه المسؤولين الأمريكيين وفي وجوه المرحبين بالتدخلات الأمريكية، كل هذه الأرقام قطرة في بحر الخراب الأمريكي. من الخيال أن يكون من صنع هذا الخراب يريد الخير لنا أبدًا. لا بتبني مطالبنا ولا بالدفاع عنا، نحن لا نثق بهم ولو فرشوا الأرض ورودًا.

المتظاهرون في ساحات الاحتجاج لا يثقون في أي جهة خارجية لأنهم يدركون أن هذه الجهات تحاول حشر أنفها في الشؤون الداخلية

هنالك تلميحات من قبل مسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية عن إصدار عقوبات بحق جهات تحت الإطار الحكومي قامت بقتل المتظاهرين. هنا في ساحات الرفض، لا يثق المحتجون في أي جهة خارجية، لأنهم يدركون كل الإدراك أن هذه الجهات التي تحاول حشر أنفها في الشؤون الداخلية. وإن سلّمنا جدلًا بإصدار هذه العقوبات المزعومة فليس لأمريكا فضلًا، هم من أتوا بهؤلاء الساسة الذين مارسوا كل أنواع الفساد بحق الشعب العراقي بمساندة أميركية!

اقرأ/ي أيضًا: إيران و"فوبيا" العراق

أتذكر جيدًا تلك اللحظة التي أمسكت بيدي الصغيرة عندما كنت طفلًا حجرًا ورميته على كاسحة الألغام التي كانت تقف في شارعنا وبعدها ركضت هاربًا لحجر أمي. ها قد كبرت يا أمي، أنا وأصدقائي الذين كانوا يرمون الحجارة معي على أرتال الجيش المحتل أثناء مروره في الشارع العالم لحينا، وها نحن في ساحات الرفض نرفض ونلعن أمريكا وكل تدخل خارجي يحاول تسيير مقاليد أمورنا ويجعلنا تحت متناول يده. يا أمي، لقد أصبحت لدينا دولة هنا في ساحة التحرير، دولة سيّدة نفسها، ولائها لهذه الأرض التي تضرب جذورها بعمق التاريخ، ولا نحتاج لمعونة أحد، نحن نبني عراقًا جديدًا، عراق ما بعد الثالثة عصرًا من واحد تشرين الأول/أكتوبر 2019.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

نظرة إيران إلى احتجاجات تشرين.. عداء لشيعة العراق

ساحات الاحتجاج.. خطاب العوائق التاريخية