06-نوفمبر-2020

أعظم ما ينتجه الإحباط هو تشكيلات جماهيرية لا تؤمن بالتغيير (فيسبوك)

عندما يكون هناك أمل لا حدود له في المستقبل، فإن الأمل، حتى عندما يفتقر إلى القوة، يمكن أن يقود إلى مغامرات يائسة. سبب ذلك أن المشحونين بالأمل يستمدون القوة من أغرب المصادر، من شعار أو كلمة. أريرك هوفر- المؤمن الصادق. 

في التجربة الروحية الفردية يركز الحكماء على قوة الحاضر، ذلك أن الماضي والمستقبل بمنزلة العدم؛ فالانشغال بهذين الطرفين يقحم الذاكرة النفسية بمزيد من الأسى. والعدم الذي أقصده هنا - خصوصًا فيما يتعلق بالماضي - ليس عدمًا مطلقًا، بل أعني به تحديدًا، هو انتفاء الذاكرة النفسية فحسب. بتعبير أدق: لا يمكن إعدام الماضي كذاكرة وقائع وأحداث، بل الكف عن صيرورته ذاكرة نفسية مؤلمة. إن الأحداث شيء، وتحويلها إلى معاناة نفسية شيء آخر. لذلك يصعب التخلي من الماضي إذا سمحنا لذاكرة الوقائع والأحداث أن تتحول إلى ذاكرة نفسية متأصلة، لأنها، بالتدريج، ستمنحنا وجودًا زائفًا لا يمثل حقائقنا، بل يمثل الحزم النفسية التي كوّنّاها عن أنفسنا. من هنا تكمن قوة التجربة الروحية ومناداتها دومًا بنسيان الماضي. لا لكونه ذاكرة عامة، بل لكونه تلوّث بأمراض الذات وإسقاطاتها.

الخوف من المستقبل يعني الحفاظ على سلطة الاستبداد، والإيمان بالمستقبل يعني ولادة حركة تقدمية تؤمن بالتغيير

 المهم، إن الخوف من الماضي والمستقبل هو الخوف من كابوس حصل في الماضي وكابوس لم يحدث بعد. إن استثمار اللحظة في الاتجاهات الروحانية لا تعني فقدان التطلع للمستقبل. بتعبير أدق، لا تنطلق هذه الرؤية من وجهة نظر محافظة، وإنما خلاصة الفكرة هو الانتباه والتبصر لزمن اللحظة الحاضرة. أي، الانشغال بما يوجد ونسيان الماضي وعدم الخوف مما لم يحدث بعد. ففي هذه النكتة يكمن جوهر السعادة وعبور المعاناة. غير أن الخوف من المستقبل في هذا المثال شيء، وفي الممارسة السياسية شيء آخر تمامًا. إن الخوف من المستقبل في نشاطنا السياسي والاجتماعي يعني فقدان القدرة على التغيير، والتشبّث بالحاضر ليس لأنه حاضر سعيد، بقدر ما يمثل لنا زمنًا سكونيًا رتيبًا مقاومًا لتيار التغيير. هذه أحد الأسباب الجوهرية للخوف من التغيير: إن الماضي والحاضر أصبحا كلًّا واحدًا يصعب التمييز بينهما، ويشكّلان القوة الدافعة للسلطة وجماهيرها لمحاربة التغيير وفقدان الأمل نحو الأفضل.

اقرأ/ي أيضًا: رهانات مُستَعجَلَة

إن المغامرة الروحية تستند على "قوة الآن" لتأسس مقدماتها نحو المستقبل؛ فالمستقبل هو ما كُنّاه في الماضي، ويشكّل صورة طبق الأصل لقوة الحاضر. المستقبل هو النتيجة المنطقية للحاضر. وبهذه النقطة المشتركة يمكن أن نجمع كلا التجربتين (الروحية والسياسية)، من حيث أن التطلع للمستقبل يعني أن نتبصر الحاضر وتناقضاته. غير أن نقطة الافتراق هنا بين الروحي والسياسي هي قوة الأمل؛ بينما يتطلع الروحي لعبور مفهوم الأمل والنظر إلى واقعه النفسي كما هو لا كما تصوره أزماته الدفينة، ففي الجانب السياسي والاجتماعي يٌعتبر الأمل هو القوة المحركة لأي عملية تغيير. "على الراغبين في التغيير أن يوقدوا الآمال الجامحة" لإحداث التغيير، فالقوة لوحدها، حسب أيريك هوفر، لا تأتي بالمطلوب ما لم ترافقها قوة الأمل نحو المستقبل.

ثمة مشكل أخلاقي وعائق اجتماعي وسياسي يعد رأس المال الأبرز للسلطة، وهو الخوف من الأمل، الخوف من المستقبل، ما يقودنا بالضرورة إلى الخوف من التغيير. وعادة ما نشاهد عمليات التغيير التي تحدث في منطقتنا تُقابَل بردات فعل عنيفة وموجعة للسيطرة على ذاكرة الماضي والتشبث بأذيالها! إن الماضي هو القوة السحرية والترياق الأعظم الذي ترضعه السلطة لجماهيرها. هذه الحشود المليونية التي تقاعدت تمامًا عن المطالبة بالعيش الكريم، تعاني من ورمات متأصلة يصعب اقتلاعها، أعني بها ورمات الشعور بالماضي الذي أضحى أحد مكوناتها النفسية. لذلك تشكّل هذه الجماهير حرس شديد البأس يحرس بوابة الماضي من المساس بها أو التشكيك في شرعيتها.

الخوف من المستقبل يعني الحفاظ على سلطة الاستبداد، والإيمان بالمستقبل يعني ولادة حركة تقدمية تؤمن بالتغيير، وهذا يعني ببساطة شديدة اقتلاع السلطة الاستبدادية من جذورها. المزيد من الغوغائية، والمزيد من الطابور الخامس، والمزيد من احتقار الحياة البشرية، يعني المزيد من الإحباط. ماذا يفعل الإحباط؟ يقود الكثير من الفئات الاجتماعية للانتماء للجماعات، ويرسّخ الجذور العائلية فيما بينها، بحسب هوفر. إن أعظم ما ينتجه الإحباط هو تشكيلات جماهيرية لا تؤمن بالتغيير؛ خائفة، مرعوبة من المستقبل. لذلك لا نستغرب مقدار التشابه بين أفراد الجماعة؛ إنها كتلة بشرية متشابهة تجمع على محاربة التغيير، لأنها إحدى ضحايا السلطة التي أرضعتها الإحباط وصوّرت لها المستقبل كما لو أنه كابوس أسود أو عفريت مخيف، سيلتهم ذاكرتهم العزيزة على قلوبهم. من هنا نفهم مقدار الهستيريا التي تحدثها الجماعات ضد الحركات الاحتجاجية وتحاول شرعنة التهجم عليها وإسقاط مشروعيتها بحجج واهية. إن الامتياز الوحيد الذي تحظى به الجماعات هو الخوف من المستقبل، فإذا فقدت هذا الخوف يعني فقدت هويتها الجوهرية!

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الدولة المختطفة

أوهام وحقائق