14-مارس-2022

عن الروائي المغدور علاء مشذوب (Getty)

جهمورية باب الخان.. التاريخ الثقافي الجامع للمدينة

 اعتمد الروائي علاء مشذوب في أعماله الروائية الأخيرة على ثيمة المكان بشكل واضح، فكانت أعماله الروائية بدءًا من رواية "حمام اليهودي"، و"جمهورية باب الخان" و"شارع أسود"، و"خريف المدينة القديمة"، مبنية كلها على تتبع سيرة المدينة واستشكاف التقلبات الثقافية والمضمرات التي تخفيها السلوكات الجماعية لساكينها. إنّ المحسوس المكاني كان الضاغط الجمالي الأكثر استفزازًا للروائي بما يحتويه من مضمرات ومسكوت عنه وتقلبات سياسية وثقافية حاول الروائي الذي ينتمي لهذه البيئة تحديدًا أن يتتبعها بتفاصيلها الحساسة وبحفر جريء للسياق الثقافي الحاكم لهذا المكان.

لا يمكن الحديث عن مجال اجتماعي بما يكتنفه من تناقضات اجتماعية وثقافية عامة دون وجود سردية الدولة

 في عمله الأهم "جهورية باب الخان" نجد أن الرواية تمثل صورة بانورامية للمجال الاجتماعي في مدينة كربلاء بكل تناقضاته واختلافاته الثقافية، صورة الجماعة المتعددة ثقافيًا وصورة الهوية التي تتغذى من هذا التعدد بشكل إيجابي، جمهورية الثلاثين ألفًا هم الخليط المتعدد المتجانس في آن واحد من العرب والفرس والهنود والباكستانيين والروس والأفغان، يتوزعون على أعمال الفلاحة والصفارين والحدادين. حمالون وحراس ليليون ولصوص ومكارية وشقاوات، فقراء ومعدمون و"قحاب" وغجر، حضر وبدو ومعدان، يلفهم هذا المكان برباطه الخاص، رباط العمل والطقوس والحرف المتنوعة بتنوع ساكينه، هذه مدينة من دماء متنوعة ومن أعمال وحرف وطقوس مختلفة، بدأ هؤلاء الـ30 ألفًا كما تضمر الرواية من بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921. 

اقرأ/ي أيضًا: السرد والمجتمع في مئوية الدولة الحديثة (1ـ2)

تبدأ الرواية بابتهال كأنه طقوس البداية، وهذه تشكل مقدمة الرواية. في محلة باب الخان، الباب هو أحد الأبواب السبعة للسور الذي يحيط المدينة الذي تم بناؤه في بداية القرن التاسع عشر ليكون حاميًا للمدينة من الغزوات القبائلية ـ الدينية. يرسم لنا الراوي طقسًا للبداية، بداية المجال الاجتماعي:

"كربلاء غارقة في ظلام ثقيل، تضاء الشوارع والأزقة بالفوانيس من قبل أشخاص مكلفين بإيقادها.. تلاشت رياح الدولة العثمانية، حينها انقشعت الغيوم وصَفَت السماء وأشرقت الشمس لتنير الأرض.. وانبثقت الدولة العراقية وتم ربط الحراس الليليين بمراكز الشرطة.. شيدت بناية دائرة الكهرباء وسط المدينة عند طرف باب الخان، وقرب المقامات والمراقد الدينية التي تحيطها.. تحولت الشوارع والأزقة إلى أغنية صباحية وثغر باسم وانتعشت الأسواق بحرفها وعمالها". 

على بساطة النص الذي في مقدمة الرواية وحسّ المباشرة الفنية فيه، إلا أننا لا يمكن أن نصف الأحداث الواردة فيه بأنها عابرة ولا تشكّل أهمية لقارئ السرد، هناك معادلة يضمرها النص، عن العلاقة بين السرد والدولة؛ إذ لا يمكن أن نصف الأحداث الواردة في مقدمة الرواية كأنها حوليات تاريخية عابرة، قدر كونها تشكل سردية اجتماعية تحاول فرض نفسها بفعل متغير حاسم وجديد ألا وهو الدولة، فالسرد هنا هو عرض لنظام اجتماعي وثقافي وسياسي جاء مع نشوء الدولة الحديثة في العراق. إذ لا يمكن الحديث عن تصورات اجتماعية وثقافية، أي لا يمكن الحديث عن مجال اجتماعي بما يكتنفه من تناقضات اجتماعية وثقافية عامة دون وجود سردية الدولة، سردية الدولة بوصفها الشرط الموضوعي وهي من تنتج مناخات جديدة لتخيّل إمكانات جديدة للمجال الاجتماعي. وأن تبدأ أحداث رواية "جمهورية باب الخان" من لحظة نشوء الدولة العراقية الحديثة بهذه الطريقة على سبيل المثال، ليس من باب الاعتباط قدر كونها استجابة لسرديات الدولة الحديثة فيما يتعلق بالمجتمع والثقافة والاقتصاد، وسواء كانت هذه الاستجابة من منطق المعارضة لخطاب السلطة أو من منطق التماهي معها، فهذا لا يختلف، قدر كون تركيزنا على أن لحظة السرد تبدأ بلحظة نشوء الدولة وتطورها، وهذا يعني نشوء المجتمع الحديث، أي تحول الجماعات والأفراد من المجال الأهلي العصبوي إلى المجال الاجتماعي العام، وهذه هي لحظة السرد التي تضمرها مقدمة الرواية بنصوصها البسيطة والمباشرة.

موت المجال الاجتماعي

تمثّل شخصية (سيد عدنان) الشخصية المحورية في رواية جمهورية باب الخان؛ إذ يرسم الراوي من خلالها خطًا بيانيًا لسلوك الفرد العراقي عمومًا، متأثرًا بأدبيات علي الوردي عن الشخصية العراقية، فهو يجمع في سلوكه كل التناقضات الثقافية التي عصفت الواقع العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة قبل قرن من الزمان وإلى يوم الناس هذا: "وعى سيد عدنان بدايات البعث وسلطتهم، إذ لم يقتصر حزب البعث على النخبة السياسية، بل أراد النزول إلى الشعب فبدأ ينشأ المنظمات الشعبية والفرق الحزبية في كل محافظة.. أراد أن يتحول كل الشعب إلى حزب واحد.. استنفر الروح القبلية والمناطقية ليترأس بعضهم على البعض من خلال الانتماء لهذا الحزب". 

هذه التقلبات التي عاشها الفرد العراقي في انتماءاته وتطرفها، كانت نتيجة موضوعية للسلوك الإزاحي للسلطة عندنا منذ بداية تأسيس الدولة وإلى الآن، فتاريخ الدولة العراقية الحديثة هو تاريخ إزاحات وإقصاءات وليس تاريخًا تراكميًا، فكل جماعة تقصي وتزيح ما قبلها بفعل الهوس الأيديولوجي والديكتاتوري الذي حكم مسارات السلطة، وهذا أنتج عدم التوازن بين السلطة والجماعة الذي سبب تضخمًا للسلطة على حساب الفرد، ولأن السلطات هي أمّارة بالسوء دائمًا، فتجنح في هيمنتها لضرب أي فكرة اجتماعية حديثة بالإمكان أن تشكل مجتمعًا مدنيًا ينتج مجالًا اجتماعيًا يقاوم أدبيات السلطة المهيمنة، فالعراق ملكيًا وبعثيًا وطائفيًا حسب وجهة نظر سلطاته، لا عراق المواطنة والمجتمع المدني الذي من المفترض أن يشكّل أي اجتماع حديث للناس في ظل دولة حديثة، غياب المجال الاجتماعي بصفته وسيطًا ثقافيًا بين الأفراد والسلطة، وهو ما كانت تعمقه السلطات المتعاقبة في العراق، الهيمنة والإزاحة تتطلب وجود ذرات من الناس تشكّلهم السلطة، حسب مزاجهم.

الطقوسية الشيعية كبناء ثقافي تواصلي

الهويات بصفتها بناءات ثقافية متخيلة أو صلبة، تبنى على حقائق كلية ينخرط بها الناس في بيئة معينة. يفرد علاء مشذوب في "جمهورية باب الخان" فصلًا عن الطقوس ويجعلها ثيمة ثقافية تنزع إلى فرض نفسها في سياق الرواية الذي هو سياق لمقاومة الهيمنة السلطوية في تشكيل الهويات: "أطراف المدينة السبع بعد عيد الأضحى، تنصب السواد إيذانًا ببدء شهر الحزن، توقف أعمدة الخيام وتمد الأسلاك الكهربائية بقناديلها الحمراء لتوقظ الشوارع، من قال أطراف البيوت لا تلتقي.. يقصد سيد عدنان وسيد حليم في اللية التي تسبق الأول من شهر محرم من كل عام، الحضرة الحسينية لإنزال الراية الحمراء من على القبة الصفراء لتستبدل بالرايات السوداء إعلانًا للحياة.. تسير الجموع حاشدة، وترتجف أضواء الأعمدة الكهربائية، وبعض النساء تطل برؤوسها من رازونات ستائر السطوح، وبعضهن من الشناشيل، يسير سيد عدنان وسط الجموع وذاكرة الوجع تطفو على الصياح والعزاء".

 منذ بداية تأسيس الدولة وإلى الآن كان تاريخ الدولة العراقية الحديثة هو تاريخ إزاحات وإقصاءات وليس تاريخًا تراكميًا

صورة الطقوس التي يصورها الروائي عن كربلاء وبيوتها وأطرافها السبعة، هي ذاتها صورة الثلاثين ألفًا في بداية نشوء الدولة الحديثة من متعددي الانتماءات والثقافات، وهي نفسها صورة كربلاء في سبعينيات القرن نفسه. هذه المدينة التي ارتبطت هويتها الجماعية بهذا المقدس الطقوسي الذي يمثل بناءً اتصاليًا للمعايير والقيم المختلفة التي يتمّ التعبير عنها عبر الرموز والانفعالات الجسدية. كانت الطقوس هي الجامع الثقافي بوصفها تمثل حقيقة جماعية كلية بين مختلف الأعراق والثقافات التي تعيش في المدينة. كل الثقافات تصب أنماطها الخاصة للقيم والمعايير وسلوكات الانفعال داخل هذا الوعاء الطقسي على شكل طقوس صغيرة ومتعددة. يشير أسحق نقاش في كتابه "شيعة العراق" مثلًا عن التأثير العشائري في طقوس كربلاء والتأثير الفارسي والهندي وغيرهم من الثقافات، فالطقوس كحقيقة جماعية مثلت وعاءً للهوية الجماعية داخل المدينة، هوية مقاومة لأي اختزال أيديولوجي لأنها ترتبط بمقدس متعالي من جهة ومحايث لهمومهم التاريخية من جهة أخرى. هذه صورة الطقوس بوصفها وعاءً ثقافيًا للهوية الفرعية.

اقرأ/ي أيضًا: "حمّام اليهودي" لعلاء مشذوب.. التاريخ الموازي للتنوع في كربلاء

 إن الصور المتعددة التي وثقها علاء مشذوب في روايته، وعلى بساطة النص من حيث الأسلوب والتقنيات، هي صورة لجماعة من الناس الذين عاشوا في هذا المكان من دون أي فكرة مسبقة عن اجتماعهم بوصفهم مختلفين ثقافيًا، سوى الهاجس الديني الطقوسي الذي شكل لهم المحرك الأساسي لإنتاج المعاني والقيم التواصلية. بدأت أحداثهم السردية مع نشوء الدولة العراقية الحديثة عام 1921، فهل كانت سردية الدولة تشبه صورة الواقع الاجتماعي الموجود؟ بالإضافة إلى أنه هل أننا نتحدث عن سردية واحدة أم عن سرديات مختلفة المبنى لكنها متشابهة أداتيًا بوصفها سرديات إزاحية تحكمها مسبقاتها الأيديولوجية لا الواقع الموجود فعلًا؟ 

خاتمة

لم يتحرر المجال الاجتماعي بعد في عراق الدولة الحديثة من تغوّل السلطة داخل المجال الاجتماعي واحتلالها للفضاء العام. تصوّر سرديات السلطة عندنا المجتمع ثقافيًا بحس رغبوي نابع من مسبقاتها الأيديولوجية أولًا ورغبتها بالهيمنة ثانيًا، فما برح خطاب الجوهرانية الثقافية الذي يرغب بتحويل أي اختلاف ثقافي إلى انقسام جوهري داخل المجتمع من الهيمنة على تصورات السلطة عن المجتمع ومنذ تأسيس هياكل الدولة العراقية الحديثة قبل قرن من الزمان وإلى يومنا هذا، بفعل هذه الهيمنة رأينا عراقًا قوميًا وإثنيًا وطائفيًا، وهذه في حقيقة الأمر ما هي إلا استراتيجيات سلطوية غرضها الهيمنة ليس إلا.

ولقد مثلت أعمالًا سردية كثيرة طيلة هذه المدة، مقاومة لهذه الحتمية الثقافية، فلا توجد معايير وقيّم جوهرية تحكم ثقافة الناس بشكل تام ومانع، ففي أعمال القاص عباس خلف علي والروائي علاء مشذوب رأينا في مضمرات نصوصهما هذه المقاومة الثقافية للحتمية الثقافية، فـ"مدينة الزعفران" مثلت انتصارًا رمزيًا للمختلف إثنيًا وهي استجابة تحاول صناعة سردية ثقافية تقاوم التصورات الحتمية التي تصنعها السلطات، وفي رواية جمهورية باب الخان ترسم الرواية لوحة تجانس ثقافي قيمتها التعددية الثقافية وجامعها الطقوس الدينية بوصفها تعبيرًا عن فقدان الجامع الحداثوي الذي تحتله السلطة وتمنع سيلانه للناس، فالمجال الاجتماعي في العراق محكوم بقبضة سلطوية تشكله لأغراض الهيمنة بما تشاء وبما ترغب.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (1ـ5)

قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (2ـ5)