02-يوليو-2021

"زمن الأكاذيب لم ينته في العراق" (Getty)

في مواقف قد لا تكون قليلة ندافع فيها عن معتقداتنا ووجهات نظرنا بتعصب غريب، ونعلل ذلك الحال بحجة الدفاع عن الحقيقة. كما لو أنّ الحقيقة تحتاج إلى كل هذا العصاب لكي تتبدى من ظلمتها. وحسب ما يبدو فإن الحقيقة في مكان آخر، في هوة سحيقة، في تحجب تام. فكل ما يحضر أثناء الجدال ليس الحقيقة وإنما شيء آخر؛ انفعالاتنا النفسية، وسمومنا المشاعرية. فمن العسير للغاية أن تظهر الحقيقة وتنجلي من خفائها وسط هذا الجحيم النفسي. كل ما نفعله للتستر على هذه المعاناة النفسية هو تدعيم أوهامنا وشرعنتها بحجة الدفاع عن الحقيقة. ربما مزيد من الصفاء والسكينة يجلو الحقيقة ويظهرها كما هي لا كما تريد سمومنا النفسية. حين نقدم معاناة الآخرين على معاناتنا، سنكون سياسيين حقًا وصدقًا، لا أن نسوّق أكاذيبنا وخياناتنا ونتاجر بخيبات الناس ومعانتهم.

ماذا يعني أن يكون بلدًا ثريًا مثل العراق يحترق بجهنم القيظ بلا طاقة كهربائية كافية؟

أما السياسي العراقي فهو بكل تأكيد أبعد ما يكون عن هذا الطرح "المثالي". ومن خلال التجربة المريرة اتضح لنا أنّ هذه الفئة من ساسة العراق لا تفهم سوى امتهان الأكاذيب. من أين تأتي هذه السكينة "المثالية" وقد أضحينا صدىً لهوياتنا الفرعية، نحاول أن نحجب الحقيقة بتبريرات واهية، ونسوقها على شكل "مناظرات"، كما لو أنّ الانتصار بالمناظرة سيقلل من حدة الخراب ويسكّن المعاناة التي تتفشى كما النار في الهشيم. حتى أنّ الكثير من الناس، وعلى منصات مواقع التواصل الاجتماعي، بدأت بالانتقاد والسخرية من "مناظرة" تلفزيونية لكاتب وبرلمانية عراقية سابقة، أثبتت فيها أنّ سبب معاناة مدينة الصدر هي الكيان الصهيوني، بمعنى أنّ هذا الأخير يمنع أي حركة إعمار داخل مدينة الصدر.

لا شيء يدعو للاستغراب، فالحقيقة، كما قلنا، في مكان آخر، وآخر هموم الحقيقة أن تظهر لسياسي عراقي جاهل. لذلك لا شيء يدعو للاستغراب، بل الاستغراب يكمن في رغبتنا المسبقة حول طبيعة المناظرة وكيفيتها؛ كما لو إننا كنّا نتخيل مناظرة حسب سياقات المجتمع الحديث. لازلنا نفكر كما لو إننا في باريس أو ستوكهولم أو طوكيو. لا نريد أن نعترف بهذه الحقيقة: إن "المجتمع" العراقي لا يفهم سوى العلاقات التقليدية القائمة على الولاء الشخصي. وهذه الحقيقة لن تتغير في الوقت الراهن. وسمعنا وسنسمع العديد من "المناظرات" التي تعكس لنا بوضوح طبيعة السياسي العراقي.

قبل هذه "المناظرة" بيومين كتبت عبارة تقول: إنّ ماهية السياسي هي التبرير. وهذا الأخير لا ينحصر بالسياسي فحسب بل تجده عند جمهور الأحزاب الحاكمة، هذا الجمهور الذي لا يختار مرشحيه على أساس برامج نافعة تصب في صالح "المواطن"، بل يقتصر دوره فقط على تعزيز سلطتهم. اسألوا الجمهور سيكرر نفس الكلام الذي حدث في "المناظرة". فإذا عرف السبب بطل العجب. إنّ "الحقيقة" التي يمكن أن تجد لها قبولًا شعبيًا واسعًا هي الاستبداد؛ لأنه يمدنا بـ "حقائق" نحن بأمسّ الحاجة إليها، حقائق تعمل على تلطيف الواقع وتعمّق فينا نظرية المؤامرة، وتعزّز فينا روح الاستبداد التي نتعطّش لها دومًا وأبدًا. لذلك نحن نبحث دائمًا عن مستبد يرضي هوياتنا الفرعية.

مشكلة السياسي العراقي ليست أنّه فاسد بالمعنى الشائع للكلمة. إنّه فاسد بهذا المعنى: إنّه يخضع عن طيب خاطر لنظام الحصص الطائفية؛ "منّا أمير ومنكم أمير".. لماذا هو فاسد بهذا المعنى؟ لأنّ الفاسدين بالنظم الديمقراطية لا يحتالون على الحقوق بهذه السهولة باعتبارهم أعضاء في نظام مؤسساتي يفرض رقابة قانونية صارمة. أما السياسي العراقي فهو يساهم دومًا في تشريع الفساد من خلال الحماية المنظمة للفاسدين. لماذا لا نرى محاكمات للفاسدين؟ وحدهم الأمراء من يعرفون الجواب. لكن لماذا لا يضغط الناخبون على مرشحيهم؟ أزعم أنّ هذا الجواب معروف ومألوف: إنهم يمثلون غطاءً شرعيًا لمرشحيهم عن طيب خاطر. هل ثمّة بلد في هذه المعمورة تنهار فيه منظومة الطاقة بأكملها في الوقت الذي ينعم فيه السياسيون بلذيذ العيش. هؤلاء ضمنت لهم جماهيرهم هذا الترف غير المسبوق. ولو اتُّهم فصيل سياسي معين بالتقصير فستهب الجماهير دفاعًا عنه، أو على أقلّ تقدير سيعمّها الصمت. إذ لو كان المشكل عقائديًا لهبّت هذه الجماهير للدفاع عن وجدانها المجروح. فالحقيقة تنحصر في ولاءها العقائدي فحسب، وما عدا ذلك لا نحصد شيئًا سوى التبريرات العقيمة والبائسة.

كلّ هذه الأحداث تعطينا مؤشرًا لا لبس فيه، هو أنّه لم يكن بكائنا ونحيبنا وتظلّمنا من المستبد نابع من التوق إلى الحرية، وإنما من نوعية المستبد؛ إذ لو جاء طبقًا لمقاساتنا لصدّقنا على أفعاله وعبدناه. من أحبوا صدام فهم أحبوه لأنه طابق مقاساتهم، ومن كرهوا صدام فهم كرهوه لأنه لم يناسب مقاساتهم. نحن لا نبكي من الاستبداد كقيمة راسخة في ذاكرتنا، بل نبكي من نوعية المستبد، نبكي لأننا لا نحظى بمعبودنا المفضّل. لذلك يبقى سؤال الحرية، والديمقراطية، والتعددية، والاختلاف، وغيرها، مشكلة كبيرة في سياقنا، لا تحظى بقبول، لأنّها ليست من صنف المرغوبات، أو ليست من صنف الحقائق.

هذا الاستنتاج لا ينبع من أحكام تجريدية مسبقة، وإنما تصدّقه الوقائع. وعلى الأرجح؛ أنّ المحاولات التي تريد البرهنة بالضد من هذا الاستنتاج فهي واقعة تحت تأثير الأحكام التجريدية المسبقة. فالوقائع تقول؛ لم تكن السلطة السياسية في ثقافتنا العربية سوى نزعة استيلائية على الحكم. أي أنّ الهاجس الأكبر لم يكن نابعًا من الكيفية التي يكون فيها شكل السلطة. وما النظم السياسية العربية إلاّ تعبيرًا عن شهوة السلطة بصرف النظر فيما لو كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية، فهذه الأشكال لا تعدو ان تكون سوى صيغ تعبيرية تحاكي رغبة الحاكم بعد أن يجردها من كل مضامينها: ماهي التعددية؟ ماهي الحريات؟ ما هي الحقوق؟ ماذا يعني أن يكون بلدًا ثريًا مثل العراق يحترق بجهنم القيظ بلا طاقة كهربائية كافية؟ المهم في الأمر أنه ثمّة سلطة حاكمة تدير الشؤون العامة بالكيفية التي تراها مناسبة بقبول تام من جمهورها. هذا الجمهور الذي يموضع نفسه في خانة النسيان ويتّقد حماسة بدوافع انفعالية عاطفية إذا تعرّض وجدانه العقائدي للمساءلة.

يمكننا أنّ نستشرف المستقبل بضرب من التفاؤل الكاذب، ونصيغ هذه العبارة كالتالي: لقد ذهب زمن الأكاذيب، ولم تعد الشعارات الفضفاضة تنطلي على الناس. لكنّها كذبة، وأعني بها هذه العبارة الرومانسية طبعًا! وإلاّ فإن زمن الأكاذيب لم ينته في العراق. أكثر من ذلك، إنّه في صيرورة جبّارة، لدرجة صيرورة الفساد نموذجًا ثابتًا وافقًا لتفكير السياسي العراقي وجمهوره السعيد.