18-يوليو-2020

تسيطر النخب على السلطة بطرق مختلفة (فيسبوك)

لا يوجد بلد يُحكم من دون نخبة، السلطة التي تأتي في الغالب بمعنى القوة، بطبيعتها تخلق النخب، والأخيرة هي الفئات الأعلى في المجتمع، بغض النظر عن نوع الحكم الذي تسيطر عليه (ديمقراطي، ملكي، استبدادي)، حتى الذي يصعد إليها ولم يكن نخبويًا، سيصبح هكذا بعد حين. فالمسلمون الأوائل انتفضوا ضد نخبوية قريش وتجارها، وكانوا يشكلون في معظهم فقراء مكة، وعبيدها، والذين لم يحظوا بمكانةٍ اجتماعيةٍ بارزة في ذلك الحين، ما إن دانت لهم الأمور، حتى أصبح الحكم حكرًا على النخبة "آل النبي، أصحابه، وقادة الجيش".. الخ، فيما ثارت الثورة البلشفية على نخبوية آل رومانوف "حكم القياصرة" في عام (١٩١٧)، لتصنع بعدها نخبة الحزب الشيوعي، أو المكتب السياسي.

النخب الصالحة تصنع شعوبًا، ودولًا صالحةً، أما الفاسدة والضعيفة فتؤدي إلى ضياع الشعوب، ودمار الدول

جمال عبد الناصر انقلب على نخبة الحكم الملكي المصري في عام ١٩٥٢، بعدها صار نخبويًا. والأمثلة لا تعد، ولا تحصى. يبقى الفرق أن هنالك نخبة صالحة، وأخرى فاسدة، أو ضعيفة. وكذلك هل هي نخبة مغلقة، أم مفتوحة؟ وهل هي تقليدية، أم حديثة؟ وما مصادر قوتها؟ وكيف تصل إلى السلطة وتسيطر عليها؟ فالأمر سيان بين هذه وتلك. فالنخب الصالحة تصنع شعوبًا، ودولًا صالحةً، كالدول الإسكندنافية، أما الفاسدة والضعيفة فتؤدي إلى ضياع الشعوب، ودمار الدول، ولعل أبرز مثال على ذلك نخبنا العربية.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا نتغيّر؟

والنخبة المغلقة دائمًا ما يكون مصيرها الانهيار، ومثال على ذلك، النخبة السوفيتية التي وصلت إلى مرحلة الشيخوخة، دون أن تسمح بتجدد الدماء، وتحريك المياه الراكدة، فالنخب بحاجة دائمة إلى العقول الشابة الجديدة، ذات الفكر الجديد الذي يناسب عصرها، بالتالي كان مصيرها الانهيار، ولهذا يقول (نوح فيلدمان) في كتابه الحرب الهادئة إن "وجود فرصة حقيقية لأصحاب الكفاءة للدخول في النظام هو أحد مفاتيح المحافظة عليه، إذا أُتخم النظام بورثة النخبوية، ومن ثم عمد إلى إقصاء أصحاب الموهبة الساعين إلى الدخول فيه، فإنه سيضع نفسه في موقفٍ تقليديٍ جدًا، نهايته ثورة". ويمكن القول إن النظام الملكي العراقي أُصيب بذات الداء، أي داء النخبوية الشائخة، أو الطاعنة في السن إذا ما صح الوصف، فهي لم تدرك حجم التغيير الذي كان يعيشه المجتمع العراقي في ذلك الوقت، ولم تستطع استقطاب النخب الجديدة التي تولدت في المجتمع العراقي، نتيجة التطور النسبي الذي حدث في العراق حينها، لذلك كانت نهايتها محتومة وهذا ما حدث في عام (١٩٥٨).

أما النخب المفتوحة سواءً أكانت ديمقراطية، أم غير ديمقراطية، تدرك أنها إن لم تستوعب حجم التغيير المعتمل في مجتمعها؛ سيؤدي ذلك إلى خلخلة سيطرتها، وربما يؤدي ذلك إلى انهيارها، ومن الأمثلة على ذلك النخبة الشيوعية الصينية، إذ يذكر (نوح فيلدمان) أن الحزب الشيوعي الصيني، يتبع نظام التقاعد بين أعضائه، بمعنى ما إن يصل العضو إلى عمرٍ معينٍ يحال على التقاعد، وهو ما يسمح بتجدد الدماء في الحزب، وكذلك استيعاب النخب الجديدة، الطامحة في الوصول إلى المناصب العليا في الدولة الصينية، على اعتبار أن الحزب الشيوعي يسيطر على مختلف نواحي الحياة في الصين، وفي ذات الوقت تؤدي هذه العملية إلى تجديد فكر النخبة الصينية الحاكمة، بما يتناسب مع المرحلة، وتحدياتها.

وبخصوص مصادر قوة النخب التقليدية، والحديثة، نجد أن النخبة التقليدية هي تلك التي تتواجد في المجتمعات التقليدية كالعربية مثلًا، والحديثة هي تتواجد في المجتمعات الحديثة كالغربية على سبيل المثال، فالنخبة هي بنت مجتمعها، وواقعها، وظرفها، ومن الصعب إن لم يكن مستحيلًا تكون عكس ذلك، فإن هذا الأمر سيؤدي إلى حدوث شرخٍ في طبيعة العلاقة بينها، وبين المجتمع الذي تحكمه.

لهذا نجد في الغالب أن مصادر قوة النخبة التقليدية هي: الدين، العشيرة، الطائفة، العائلة، الرمز.. الخ، وبناءً على هذه تجد أساس شرعيتها في الحكم، مثال على ذلك النخبة العراقية ما بعد عام (٢٠٠٣)، وكذلك النخبة السعودية، وكذلك النخبة الإيرانية، وهذا لا يمنع من لجوئها إلى مصادرٍ حديثةٍ لتعزيز سيطرتها وهيمنتها؛ إلا أن الأساس يبقى لما ذكرنا من المصادر الرئيسة أعلاه.

أما النخبة الحديثة فمصادر قوتها تختلف عن التقليدية فهي تستند على الطبقة الرأسمالية "البرجوازية"، وكذلك نخبة المفكرون، والعلماء، ورجال المال، والإعلام، والتكنولوجيا، وكارتلات الشركات الكبرى، وجماعات الضغط، والمصالح، وهذه بالأساس منتشرة في الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة "بريطانيا"، وفرنسا، وألمانيا.. الخ، نعم موجودة المصادر التقليدية؛ إلا أن تأثيرها ليس كبيرًا على النخب الغربية.

تسيطر النخب على السلطة بطرق مختلفة، فهي أما تصل إليها بطريقة ديمقراطية كما هو الحال في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية الغربية، أو تصل بطريقةٍ تقليديةٍ تعتمد على النسب، والدم، والوراثة كما هو حال دول مجلس التعاون الخليجي، أو بطريقة انقلابية كما هو الحال في الأنظمة العسكرية، والاستبدادية. وتلجأ النخب عادةً إلى الطريقة العنيفة "انقلاب عسكري، أو ثورة شعبية"، في سبيل وصولها إلى الحكم، رغبةً منها في التغيير؛ إذا كانت السلطة في البلد الراغبة في أن تغير حكمه، هي استبدادية، أو منغلقةً على نفسها أي النخب، حتى لو كانت تتبع طرقًا ديمقراطيةً؛ إلا أنها ربما تكون شكلية فقط لا عميقة.

النخبة هي بنت مجتمعها وواقعها وظرفها ومن الصعب إن لم يكن مستحيلًا تكون عكس ذلك

ووجدت الديمقراطية الحقيقية لا المزيفة، كطريقٍ سلميٍ تتبعه النخب، والشعوب، من أجل تحديد مصيرها بطريقةٍ ناعمةٍ، وهادئةٍ، بعيدةٍ عن الدماء، وجز الرقاب، فهي على حد تعبير أحد أساتذة العلوم السياسية، طريقةً لعد الرؤوس بدلًا عن قطعها. فهي تضمن للنخب المختلفة في مشاربها، وأفكارها، ورؤاها، أنها تستطيع الوصول إلى السلطة بين مدةٍ، وأخرى، دون الحاجة إلى اللجوء للأساليب العنيفة، وكذلك تضمن عدم احتكارها من قبل نخبةٍ معينةٍ، إذ أن احتكار السلطة يولد الاضطرابات، والمصادمات، وكذلك الاستبداد، والقهر، والظلم، والتحيز وغيرها من السلبيات.

اقرأ/ي أيضًا: ورطة الديمقراطية

وكذلك حتى إن بعض الأنظمة الشمولية، نجدها مرنة بعض الشيء في تعاملها مع النخب المعارضة لها، إذ تستطيع مجاراتها، وربما دمجها في السلطة، عبر منحها بعض الامتيازات السياسية، والمصلحية، وقد تكون أنظمة مجلس التعاون الخليجي تتبع هذا النمط بعض الشيء، لا سيما وأنها تتبع طريقة شراء ولاء القبائل، عبر إعطاء أبنائها عدد من المناصب المهمة في الدولة، وكذلك اللجوء إلى المصاهرة بين العوائل الملكية، والقبائل القوية، حتى تضمن النخبة الحاكمة استقرار الحكم، وعدم حدوث الاضطرابات في بلدانها، وأيضًا اللجوء إلى أسلوب البيعة، إذ نجد أن أمير قطر الحالي (تميم بن حمد آل ثاني)، عند تنصيبه أميرًا لبلاده، جاءت عدد من الوفود القبلية إلى القصر الأميري من أجل مبايعته، وهي عملية تُضفي الشرعية السياسية، وكذلك تمتعه بمقبوليةٍ مجتمعيةٍ لسلطته.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يمكن بناء دولة في ظل ذاكرة تكره الديمقراطية؟

قراءة في أسباب فشل النظام السياسي العراقي