05-مايو-2023
الدولة العراقية

لم تبنى التجربة العراقية بشكل تراكمي (Getty)

يعلم العديد من المختصين في الشأن السياسي، والاجتماع السياسي، أنّ الدولة تنمو وتطور بالاستناد على عملية تراكمية، تقوم على التجربة والخطأ، وبالتراكم والتجارب تتطور وتتقدم وتترسخ. وتظل الحكومات تأتي وتذهب، وحتى الأنظمة السياسية؛ إلا أنّ ذلك لا يغير شيئًا من واقع الدولة، فهي تستمر وتعمل بغض النظر عن تبدل الحكومات والأنظمة، فهي معنية بمستقبل الشعب، وحفظ وجودها، ووجود جغرافيتها، ويتم ذلك عبر المؤسسات الراسخة، وهنا القصد بالدرجة الأولى مؤسسات الجيش، والشرطة، والمخابرات، والأمن، والقضاء، والتعليم، والاقتصاد.. باختصار كل مؤسسة تعمل على ديمومة بقاء الدولة وتطورها.

لم تكن دولة ما بعد 2003 هي الدولة التي حلم ويحلم بها العراقيون. إنها مسخ دولة وكل همها ضمان مصالح شيوخ الطوائف

هذا الحال تسير بالاستناد عليه أغلب الدول ولا سيما الديمقراطية منها، التي لم تربط مصير دولها بمصير النظام السياسي الذي يحكمها، أو الأشخاص الذين يديرونه، ولم تعمل أنظمتها السياسية على ابتلاع الدولة، كما هو الحال مع جزء كبير من دول الجنوب، التي يعني فيها رحيل الحاكم أو النظام السياسي، انهيار الدولة وتفككها؛ لأن السلطة هيمنت على الدولة، وبدلًا من أن تُسير الدولة دفة السلطة وفقًا لرؤيتها المؤسساتية والاستراتيجية بعيدة المدى، حصل العكس من ذلك، إذ الدولة ذابت وتماهت مع السلطة وأصحابها، فلم نعد نفرق بين الدولة والسلطة أو النظام السياسي، وكيف نفهم أن الدولة تسير بالشكل الصحيح؟ عندما يتغير الحكام بكل يسر، فيذهب الحاكم ويأتي آخر، دون أن يؤثر ذلك على واقع الدولة ووجودها في شيء، على العكس من بعض التجارب الديكتاتورية، التي لم ترحل إلا وحولت البلاد إلى حطام.

أُصيب الشعب بسبب ذلك بارتباك كبير، فظن أنّ السلطة هي الدولة، والحاكم هو الآمر والناهي، ولا شيء يعلو فوق سلطانه، فالدولة أنا وأنا الدولة كما قال الملك الفرنسي (لويس الرابع عشر)، أو إذا قال صدام قال العراق، بتعبير الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. بينما -وكما يفترض - يظل سلطان الدولة فوق الجميع بما فيهم الحكام، لتستمر عجلتها بالدوران بغض النظر عن وجودهم من عدمه، فهي وجدت لأهداف أخرى ليس من بينها أهداف الحكام، فهي بحسب جاك ماريتان، تُعنى بشكل خاص بسيادة القانون، وتقدم الحياة العامة، والنظام العام، وتصريف الشؤون العامة. ويضيف أنها ليست فردًا أو هيئة أفراد، بل مجموع مؤسسات مركبة، كجهاز آلي على قمة المجتمع. وهي أداة وجدت لخدمة الإنسان، فوضع الإنسان في خدمة هذه الأداة إنما هو انحراف سياسي، فالإنسان كفرد يخص الكيان السياسي والأخير بدوره هو من أجل الفرد. إلا أن الفرد ليس من أجل الدولة بأي حال من الأحوال، بل الدولة تتكون من أجل الفرد.

وهنا نجد أن ماريتان وصل إلى مرحلة عد الدولة ما هي إلا الجزء الأعلى من الكيان السياسي الذي تقوم بخدمته، وهذا الكيان هو أعلى من الدولة ذاتها، وهي الجزء الأرقى في هذا الكيان بحسب ماريتان. وهذا الكيان -بحسب فهمي- يقصد منه ماريتان الجغرافيا والأمة التي تقطنها، والآمال التي تحملها وتجمعها، وكل عاداتها وتقاليدها وأعرافها، ودور الدولة يقتصر على ضمان الأمن والعدل والتنظيم، بالتالي أن النظام السياسي والحكومة، وكل مؤسسة تنفيذية، أو تشريعية، أو قضائية ما هي إلا جزءًا من الدولة، والأخيرة تتبع كيان أعلى هو الكيان السياسي.

فإن كان ماريتان يتحدث عن الدولة بوصفها جزء من الكيان السياسي، فما بالك حين نجد في بعض الدول، أن السلطة التي قد يمثلها حاكم فرد، أو (نخبة)، أو حكومة، أو طائفة، أو فئة مسلحة مثل الجيش، وهي جزء من الدولة، والأخيرة جزء من الكيان السياسي، قد ابتلعت الدولة ومن ثم الكيان السياسي نفسه، فنجدها تحتكر فهم الشعب والدولة والنظام، وكل من يخرج عن هذا الفهم فهو خائن وعدو يجب استئصاله. وهذا الأمر نجده واضح بشكل كبير، عند الاطلاع على مسيرة الدولة العراقية الحديثة التي أُسست في عام 1921.

مسيرة الدولة العراقية المتعثرة.. ملكية لم تدرك المتغيرات

ليس خافيًا على مختص في الشأن السياسي العراقي، أن مسار الدولة العراقية شهد تعثرات عدة، أسهمت في تخبطها وعدم استمرارها في مسيرة البناء والتقدم والتطور، ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك هي احتكارها من قبل نخبة، أو طائفة، أو عائلة، أو حاكم فرد، الأمر الذي عزز الشعور بالغبن من قبل الفئات العراقية الأخرى المستبعدة، أو المقموعة، وتعزز إيمانهم بأن الدولة لا تمثلهم، بقدر ما أنها تمثل فئة محددة احتكرت كل شيء، وتعد بالنسبة لهم بمنزلة العدو، وأغلقت الباب أمام البقية، بالتالي هي ليست الدولة العراقية التي يهدفون إليها، مما عزز الشرخ بين غالبية الشعب وبين الدولة، وهذا قد يكون اسوأ ما تعانيه الدولة، أي عزلتها عن المجتمع، مما يعرضها إلى الأخطار، وعدم الاستقرار، وخطر تفككها وسقوطها، فالناس المبعدون عندما تغلق الأبواب كافة بوجوههم، سيشعرون بأن الدولة لا تمثلهم، وبالتالي أن أية محاولة للتغيير يقومون بها ستكون غالبًا انتقامية، وتؤدي إلى قلع مؤسسات الدولة -إن صح التعبير- ويتعاملون معها بوصفها عدوة لهم، والعدو هنا كل شيء مباح أمامه.

اقرأ/ي أيضًا:
في الدولة المحايدة

وعلى سبيل المثال، أن أهم حدثين - بالتأكيد هنالك أحداث أخرى مهمة- أديا إلى حدوث القطيعة بين النظام الملكي العراقي من جهة، والنخب والفئات الشعبية المعارضة له من جهة أخرى هما:

  • أولًا: إعدام العقداء الأربعة ضباط حركة مايو / مايس عام 1941. 
  • ثانيًا: الانقلاب على نتائج الانتخابات البرلمانية عام 1954.

وفي هذه الانتخابات أشار السياسي العراقي نصير الجادرجي في مذكراته، إلى أنّ القوى السياسية المعارضة حققت النتائج الجيدة، مما أدى إلى عدم رضا نوري السعيد على هذه النتائج، وعمل على إلغاءها، وإلغاء البرلمان الذي نتج عنها بعد مدة قصيرة من تشكله، وهو ما أدى إلى ازدياد حجم الهوة بين النظام والشعب في حينها. وبيّن الجادرجي أنّ جميع النخب المعارضة أجمعت بعد هذه الحادثة، على أن مسار الإصلاح والتغيير عبر آليات النظام نفسه لم تعد تجدي نفعًا، ولهذا صار الاتفاق على ضرورة التغيير بالثورة والقوة، وهو ما حصل في تموز عام 1958

نوري سعيد

وعلى إثر ذلك، تم تقريبًا الإجهاز على كل الآثار التي خلفها النظام الملكي، على الرغم من أن الكثير منها كان في صالح مسار الدولة العراقية الوليدة حينها، إلا أن نخبة النظام الملكي أغلقت الباب على نفسها، ووقفت بشدة أمام محاولات التغيير من الداخل - داخل النظام السياسي ذاته-، ولم تستوعب حجم التغيير الذي شهده المجتمع العراقي في حينها، سواءً على مستوى الوعي السياسي، أو تنامي نخب جديدة لديها أهدافها وطموحاتها في الترقي والصعود.

جمهورية الطغيان

مع ذلك بقيت المشكلة ذاتها عالقة حتى مع زوال النظام الملكي، فالأنظمة السياسية التي جاءت من بعده لم تتعظ من السلبيات، التي كانت موجودة في العهد الملكي بل نجد أنها عمقتها؛ فبعد أن كانت هنالك نوع من الديمقراطية إبان النظام الملكي ولو بحدودها الدنيا، على الرغم من كل ما عانته من مثالب، حتى هذه انتهت بعد العام 1958، وصار ديدن القوى السياسية والعسكرية هو الانقلابات العسكرية، وما يتبعها من تصفيات دموية بحق القوى المعارضة، وصولًا إلى لحظة حكم حزب البعث الذي استمر للمدة 1968 ـ 2003، الذي بدء بانقلاب عسكري، ولم ينته إلا بكارثة الاحتلال الأمريكي في عام 2003، ففي حكم البعث تجلت كل عوامل الطغيان، والتصفيات السياسية والشعبية، واحتكار الدولة، والحياة العامة ليس من حزب واحد فحسب، بل من عائلة وفرد واحد فقط، فكيف عندها يمكن الحديث عن مسار الدولة وتطورها؟ وهو ما يعيدنا إلى نقطة الشروع من الصفر عند كل مرحلة من مراحل التغيير.

الانقلابات

لحظة 2003.. حكم الطوائف

استبشرت غالبية الشعب العراقي خيرًا لحظة سقوط نظام حكم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، على يد القوات الأمريكية في عام 2003، حتى ظنوا أن عهدًا جديدًا بانتظارهم، ينسيهم عذابات وكوارث العهد الجمهوري والبعثي، ويفتح أمامهم آفاق المستقبل المشرق. مستقبل مبني على أساس دولة ديمقراطية تجمع الكل تحت خيمة الوطن الواحد، تقوم على أساس حكم القانون، ومعيار المواطنة، والعدالة، والحقوق، والواجبات، وتفتح صفحة جديدة تنطلق منها نحو المستقبل، وتنسى أهوال الماضي وأحقاده. إلا أن هذه اللحظة الحالمة سرعان ما تبددت، على يد حكم الطوائف، والعشيرة، وما أعقب هذا الحكم من نتائج كارثية تركت آثارها السلبية على عموم المجتمع والجماعات العراقية.

لم تكن هذه هي الدولة التي حلم ويحلم به العراقيون. إنها مسخ دولة كل همها ضمان مصالح شيوخ الطوائف، والشعب والكيان السياسي والدولة  - بفهم ماريتان - آخر همومهم. فما حصل أن النظام السياسي بعد 2003، عمل على تكريس الطائفية وحكم الطائفة، ونقلها من المجتمع إلى الجسد السياسي والدولة، بدلًا عن إنتاج دولة المواطنة التي تتعامل مع الشعب العراقي، من منطلق القانون، والنظام، والعدالة، وليس من منطلق انتماءاتهم الفرعية، إذ صار العراقي يعلي من شأن هُويته الفرعية على حساب الهُوية الوطنية، لماذا لا يقوم بذلك، وهو يرى أن الدولة ذاتها تفكر بعقلية الطائفة والهُويات الفرعية؟ 

وأيضًا من كوارث لحظة 2003 ترسخ ثقافة الفساد السياسي، حتى صارت نهجًا يقوم عليه النظام السياسي، ونجد أن كبار السراق تتم عملية تبرئتهم بكل بساطة، بعد إضفاء بعض الرتوش القانونية على ذلك، وكما حصل مع قضية المدعو نور زهير، وهذه الشخصية بالتأكيد لم تتحرك بجهود فردية، وإنما هنالك فساد ممأسس له، ودعم من قمة النظام، وما هو إلا واجهة لجهات أخرى عميقة تتحكم بالدولة والنظام السياسي، فماذا يمكن أن ينتظر العراقي من نظام يكافئ فيه السارق على سرقته؟ حتى أن المعايير انقلبت في هذا العهد.

ما الحل؟

إن تكالب الجماعات العراقية للسيطرة على الحكم والسلطة ومن ثم الدولة، نابع من فكرة رسختها الفئات الحاكمة التي تعاقبت على حكم العراق وهي أن من يهيمن على الحكم يضمن وجوده وحقوقه، وفي حال كان خارج السلطة والحكم؛ يعني ذلك تعرضه للاضطهاد والقمع والظلم والتهميش، فعليه نجد الجميع يحاول الوصول إلى السلطة، والعض عليها بالنواجذ -كما جاء في أحد أحاديث النبي محمد- من أجل ضمان الوجود كما أشرت آنفًا، ومن ثم إعادة دورة الظلم من جديد، فالمظلوم يصبح ظالمًا، والظالم يصبح مظلومًا، والمقياس الوجود في السلطة من عدمه، وندور في الحلقة ذاتها، وعدم محاولة كسر هذا الطوق، على الرغم من وجود بعض المحاولات، إلا أنها لم تزل ضعيفة، وغير قادرة حتى الآن على مواجهة تغول حكم الطوائف والعشيرة.

إنّ التخلص من هذه المعضلة الأزلية، وانتهاء شعور ضرورة السيطرة على السلطة من أجل ضمان الوجود، ويصبح هذا الشأن ثانويًا لغالبية الناس والجماعات إذا ما زال الشعور بالخطر وأدركوا أن الدولة القائمة تمثلهم فعلًا. لربما يتم بالاعتماد على المعيار الفرنسي في فهم وتعريف الدولة، وكما أشار إلى ذلك المفكر العراقي (فالح عبد الجبار) في إحدى محاضراته، وهو ما اتفق معه أيضًا، إذ يرتكز الفهم الفرنسي على سندين: الأول طي صفحة الماضي ونسيانه، والثاني الاعتماد على معيار المصالح المشتركة، فأن لم يجمع الشعب العراقي الدين، أو المذهب، أو اللغة، أو القومية، فإنّ المصلحة وعيشهم ضمن أرض واحدة، تحتم عليهم القبول بمبدأ العيش المشترك، واحترام بعضهم البعض، وأن تؤسس الدولة لذلك وتقوم على هذه المبادئ. والابتعاد عن الفهم الألماني القائم على الركيزة القومية، أي أن الدولة تقوم على مجموعة من الناس تربطهم رابطة مشتركة مثل الدم أو العرق، وتستبعد وتقصي الجماعات التي لا تشترك في هذا الرابط، ما يؤسس لدولة الطغيان والإبادة البشرية، وكما حدث إبان الحكم النازي الهتلري.

النظام السياسي بعد 2003 عمل على تكريس الطائفية وحكم الطائفة ونقلها من المجتمع إلى الجسد السياسي والدولة

وبذلك، فإنّ الفهم الذي اتفق معه هو فهم الدولة الديمقراطية الليبرالية، التي لا تنظر إلى المواطن بوصفه متدينًا أم لا، مسلمًا أم كافرًا، سنيًا أم شيعيًا، عربيًا أم غير عربي. ومعيارها الوحيد هو القانون والجنسية، التي تمنح لكل الناس بما أنهم يقطنون الجغرافيا، التي تقع عليها سيادة الدولة، بل أنّ بعض الدول تجاوزات الانتماء الجغرافي، لتمنح الجنسية لكل شخص أقام على أراضيها، لمدة من الزمن كأن تكون خمس سنوات، وبذلك يصبح مواطنًا كامل الأهلية له ما له وعليه ما عليه من الحقوق والواجبات.