04-يوليو-2020

(علي الحساني/ العراق)

في المقهى مع أصدقاء شعراء، وكلّهم أصغر سنًا مني، كنّا نتحدث عن مجلة "براءات". وصل بنا الحديث إلى افتتاحيتها التي كتبتُها تحت تأثير فكرةٍ تضغط عليّ منذ سنوات فحواها أنّ الصفة الأبرز للشعر تتمثل في كونه غير نافع. وعدم نفعه هو عين براءته، ومن تلكم البراءة ومن عدم النفع هذا استقينا عنوان المجلّة.

الفكرة هايدغرية ـ هولدرينية كما تعلمون. هايدغر تحدّث مطولًا عن أنّ أعظم الأشياء هي ما لا نفع فيها ولا قصد، وأعظم الأقوال هي تلك التي لا يمكن صرفها ولا استثمارها في منفعة. الأقوال البريئة مجّدها هايدغر الذي كان ناظرًا على الدوام لمقولة شاعره الأثير "هوليدرين" "الشعر أكثر الأفعال حظًا من البراءة" وهي بالمناسبة شعار مجلتنا "براءات".

في المقهى، صحبة أصدقاء شعراء شبّان كنت أجادل عن "فكرتي" ـ التي هي في الحقيقة فكرة هيدغر وهولدرين التي جادلتُ عنها في مقالات سبقت افتتاحية المجلة، ووجدتُ أني تحت وطأة معضلتين تلجمان لساني:

الأولى هي أني أسيرُ تناقضٍ ظاهرٍ حين أمجّد ما لا نفع فيه في الوقت الذي استثمر فكرة اللانفع الهيدغرية لأنتفع منها في مداولات كتابية وشفاهية. كأنما أجعل مما لا نفع فيه نافعًا لي ولـ"فكرتي".

والثانية هي أنّي ليس في يدي دلائل كثيرة على وجود نصوصٍ شعريّة أو نثرية مشرقةٍ لا يمكن صرفها على هيئة مسكوكات نافعة.

المقهى "كهوة وكتاب" في الكرادة حيث كنّا نتحدث أنا وأصدقائي الشبّان، يحتلّ الطابق الأول في البناية بإزاء مسجدٍ يعتلية ويدور حوله إفريز بلون شذريّ، لون السماء الكابي، بل هو السماء لكنْ حين تكون حالكة، لون مصمم ليذكرنا بشكلٍ مضاعف بالسماء.

على الإفريز الذي يدور حول المسجد مكتوبة آية النور:

"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".

قلت لأصدقائي: ما نفع هذه الآية؟ كيف يمكن أن ننتفع منها؟ لا هي آية حُكمية فقهية ولا هي وعظية إرشادية، هي ليست أمثولة ولا قصة تاريخية، لا تقدّم معلومة ولا تحرّض على فعل، لا تأمر بشيء ولا تنهى عن شيء ولا تدعو لشيء. كلمات خالية من كلّ معنى خارجها. وبسببٍ من عدم نفعها هذا أصبحت مشرقة نورانية ومترعة بهذا الإيحاء وذلك الاكتناز.

هذا كلام لا يريد نفعًا ولا يتطلب فهمًا، ولهذا فإنّ فيه مسًّا من القداسة. هذا كلام لم تلكه أضراسُ الأذهان والأفهام ولم يُطحنْ برحى الدهاء، كلام لم يلوّثه العقل بألاعيبه، يطلع هكذا كصلاةٍ مرفوعة إلى إله كلّه غيب ومجهولية. وتذكرتُ كم مرّت عليّ أوقات في حياتي كدتُ لا أميّز فيها بين شعر ودعاء، كلّ ما يتوجّه به إنسان إلى الغيب فهو شعرٌ عندي مهما كانت صياغته.

هذه كانت على الدوام نسختي الخاصة من الشعر، وهي نسخة مرهقة لأنها لم تمنحني مصاديق كثيرة في ما أقرأ، وهي نسخة شاقّة لأنها أدخلتني إلى عوالم لم تطأها كثيرًا أحذية الشعراء، عوالم طالما سخر منها الشعراء وضحكوا على مَنْ فيها.

في اللغة، في صميم اللغة توقٌ كبير إلى أن تصطفّ الكلمات لصياغة دعاء. الصلاة في صلب القاموس، والقاموس في يد شاعر يريد أن يكتب شيئًا لا يريد منه أيّ شيء.

في المقهى، مع أصدقاء شعراء، قلت شيئًا كهذا ولم يضحك عليّ أحد.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رسالة في انطباق الشفتين

رسائل من شاعرٍ إلى قاتل

دلالات: