27-أكتوبر-2020

ظل الحراك الطلابي متماسكًا وقادرًا على تجاوز الأطر التقليدية (Getty)

من الجدير بالذكر، وهو ما لم يألفه العراق بعد 2003 من تمظهرات الاحتجاج الطلابي كان يوم 26 تشرين الأول/أكتوبر 2019 من مدارس الثانويات في بغداد بعد ارتفاع موجة القمع والقتل، حيث أقدمن طالبات الثانويات في منطقة شارع فلسطين والشعلة بإعلان الإضراب عن الدوام وترك المدارس والخروج إلى ساحة التحرير مركز وقلب الاحتجاجات الشعبية، حيث خرجنَ الطالبات حاملات الأعلام العراقية، وبمسيرات ملفتة للنظر، إذ أن الإناث في مثل هذه القضايا دائمًا ما يكون دورهن مقتصر على انفعالات فردية، لكن هذه المرة كانت حركة مبهرة ومفاجأة للجميع، وهو تمرد الطالبات على الأعراف والقيود التي وضعتها سلطة النظام البعثي الصدامي وعززتها سلطة نظام ما بعد 2003 من عمليات تغييب للدور النسائي وخاصة لفئة الأعمار التي تنتمي لها هذه البنات، وهن شابات وبمقتبل العمر، وغالبيتهن لم يبلغن السن القانوني، لكن ما حصل هو إفهام للجميع وتبيان لحجم الإرهاب السلطوي الذي مارسته أحزاب الفساد المتسلطة على الشعب العراقي بمعونة الميليشيات الداعمة لهذه الأحزاب. وظهر فيديو آخر لمجموعة من التلميذات في إحدى المدارس المتوسطة وهن تتراوح مواليدهن بين (2003 و2007) حيث قامن بتشكيل لجنة قامت بجمع مصروف الطالبات اللواتي تبرعن بمصروفهن اليومي لدعم ساحات الاحتجاج بعد، وقامن بتسليم المبلغ إلى ادارة المدرسة وأطلقن كلمات غاية في الوطنية والرفض للقتل والقمع غير المبرر، وكلمات دعم معبرة عن شعور بالامتعاض من الفساد والفشل وتفشي ظاهرة العمالة، وطمس معالم الوطنية وإبعاد الشعب عن مفهوم الأمة العراقية وترسيخ الانقسام الفئوي والطائفي والقومي والعنصري.  

من أهم السمات التي جمعت الطلبة وقوتهم هو قضية رفض الوصاية الأبوية عليهم وعلى المجتمع من قبل الجميع

رافق الحراك الطلابي انتفاضة تشرين منذ 27 تشرين الأول/أكتوبر 2019، موعد انطلاق أول مسيرة طلابية داعمة، وقد كان لمسيرات الطلبة عبر مختلف المحافظات دورًا مفصليًا في بث الحيوية في قلب الحراك الشعبي عامة، حيث نجح أخيرًا  في تجاوز معظم الفجوات السحيقة التي زرعها النظام لسنوات، في المجتمع عمومًا وفي قلب الحركة الطلابية خصوصًا. ومع ذلك، ما تزال الإرادة السياسية في العراق مكتومة مقيدة، إذ تعاملت السلطة منذ عقود بمزاجية مع جيل كامل من الطلبة الجامعيين الذين حملوا على عاتقهم مستقبل البلاد، فلا يمكن الحديث عن تطوير قطاع التعليم الجامعي دون وضع استراتيجيات تسمح للطلبة بتحقيق أهدافهم المسطرة كفاعلين في المجتمع، ومنحهم الحرية من أجل دور قيادي في النضال في دولة ديمقراطية يقودها شباب مثقف وواعٍ، إذ أن من أهم السمات التي جمعت الطلبة و قوتهم هو قضية رفض الوصاية الأبوية عليهم وعلى المجتمع من قبل الجميع. 

اقرأ/ي أيضًا: حيدر سعيد: احتجاجات تشرين ثورة ولحظة مهمة في بناء الوطنية العراقية

لم يأتِ هذا الحراك الطلابي من العدم، فهو وليد تاريخٍ  طويلٍ من النضال الوحدويّ الذي لطالما امتلك وزنًا سياسيًا واجتماعيًا، وسمح ببقاء الدور الفاعل للجامعة العراقية والمدرسة العراقية  في المشهد السياسي، رغم عقود من التغييب والتقسيم والقمع والاستقطاب، وهو في طريقه نحو التحول إلى فاعل تاريخي بالموازاة مع ما يخطّه الحراك الشعبي في سجلات التاريخ. انطلق الطلبة العراقيون في نضالهم في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ افتتاح المدارس في العراق، ومع هذه الانطلاقة انطلقت أولى شرارات النشاطات الطلابية، وقد حدث هذا في عهد داود باشا والي العراق، فافتتحت مدرسة الصنائع عام 1869 والمدارس الخاصة والأهلية للديانتين المسيحية واليهودية، وكانت هذه الأنشطة متأثرة بالمشاعر الوطنية قبيل وبعد تأسيس الدولة العراقية أوائل القرن العشرين. ولعل أبرز المحطات التي شهدها الحراك الطلابي العراقي ما بعد تلك الحقبة هي الإضراب الطلابي عام 1926 لطلاب الإعدادية المركزية في بغداد، والاحتجاجات والتظاهرات التي شارك فيها الطلاب احتجاجًا على زيارة الداعية الصهيوني (ألفريد موند) لبغداد عام 1928، والتظاهرات والاعتصامات والإضرابات في الفترة من بداية الثلاثينيات حتى عام 1948 تعاضدًا مع فصائل الحركة الوطنية العراقية، وانتفاضة تشرين عام 1952 التي تفجرت شرارتها من كلية الصيدلة في بغداد وتضامنت معها المدارس، وهزّت أركان الحكومة وأجبرتها على إنزال الجيش إلى الشوارع، وانتفاضة 1956 التي انطلقت شرارتها مع العدوان الثلاثي على مصر وتأميم قناة السويس، وشارك الطلبة في الحشد بزخمٍ كبير، والإضراب الطلابي في ثانوية الزراعة في مدينة الكوت في نيسان/أبريل عام 1960، وإضراب جامعة البصرة عام 2005 بعد قيام ميليشيا دينية بالاعتداء على سفرة للطلبة، وإضراب طلبة كلية الهندسة في الجامعة المستنصرية لإقالة عميد الكلية في عام 2013 والذي كان حدثًا ملفتًا ومفاجئًا للقوى التي كانت لم تحسب حساب للطلبة وحراكاتهم الاحتجاجية، واحتجاجات جامعة المثنى التي قامت بطرد وزير التعليم العالي عام 2016 حسين الشهرستاني الذي أقيل بعد فترة وتم تكليف رئيس جامعة الكوفة الدكتور عبد الرزاق العيسى بدلًا عنه، واحتجاجات جامعة واسط التي قامت بطرد رئيس الوزراء حيدر العبادي من الجامعة احتجاجًا على تفشي الفساد والفشل الإداري لمؤسسات الدولة، واحتجاج طلبة كلية القانون في جامعة القادسية على زيارة أحد زعماء الأحزاب التي تمتلك قوة مسلحة حيث دخلوا حرم الجامعة بأسلحتهم وتم على إثرها فصل الطلبة من الكلية لمدة عام فقط لأنهم أرادوا إبعاد الجامعة عن التحزب والصراع السياسي الدائر آنذاك بين الأحزاب، وحركة القمصان البيضاء التي رفعت مطالب طلابية في جامعات الفرات الأوسط ولاقت تضامن وتأييد من باقي الجامعات العراقية، واحتجاجات جامعة القادسية لإقالة رئيس جامعتها عام 2017. 

بقي الحراك الطلابي حراكًا غير مؤسسي، ولكن في خريف 1945 ظهر "التنظيم الطلابي لطلبة دار المعلمين العالية" في بغداد (كلية التربية لاحقًا) إلى أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، فتأسس أول تنظيم طلابي يمثل عموم طلبة البلاد في 14 من نيسان/أبريل 1948، وسمي بـ"اتحاد الطلبة العراقي العام" وهذا الاتحاد هو الذي جمع جهود الحراك الطلابي، وطور فيما بعد عنوانه إلى اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية بعد إنقلاب14 تموز 1958، والذي كان يتغلب عليه صبغة اليسار، فيما عرفت الفترة التي تلت عام 1958 ولادة الكثير من التنظيمات الطلابية بمختلف توجهاتها، وكان كل تنظيم منها يتبنى مبادئ حزب سياسي معين، ودخلت في صراعات مشابهة لتلك الصراعات الحزبية من خلال النضال والدفاع عن حقوق الطلبة انطلاقًا من أفكار شيوعية يسارية لبعضها، وإسلامية محافظة للبعض الآخر، بعثية قومية وقومية ناصرية وليبرالية ديمقراطية عند البعض، الأمر الذي فتح الباب على صراعات أيديولوجية كبيرة في قلب الجامعة، وأثر على قدرتها في السيطرة على هذه التنظيمات التي أثبتت قدرتها على بسط نفوذها وأفكارها السياسية والفكرية على فئات واسعة من الطلبة.

إنَ التنظيمات هذه استمرت في نشاطاتها وتنافسها حتى وصول البعث عام 1968 للسلطة، وهذا الأمر الذي أفرغ الحركة الطلابية من محتواها الجوهري وأصبحت حلقة حزبية مرابطة داخل الجامعات والمدارس وتروج لأفكار وأدبيات تملى عليهم من قبل القيادة البعثية خاصة بعد انفراط عقدة الجبهة الوطنية وتصفية الحزب الشيوعي وحزب الدعوة وجميع الحركات ذات النشاط الطلابي السياسي، ولهذا الاتحادات فقدت ذلك التأثير المرجو منها في أوساط الطلبة، وأصبحت مجرد تنظيمات شكلية ذات نشاطات ثقافية واحتفالية محدودة بسبب التضييق من طرف السلطة، وتحييدها وتقزيم دورها في النضال الطلابي.

عودة إلى تشرين  

إن الغالبية الساحقة من الطلبة الذين تعاملنا معهم منذ بداية الحراك لا ينتمون إلى أي تنظيم طلابي أو سياسي، لكن هذا لا يعني بخس دور المنظمات الطلابية الفاعلة في الحراك الطلابي. يمكن القول إن الطلبة أسسوا نواة لقاعدة طلابية هامة يمكن الارتكاز عليها للتفاعل مع التغيرات في مواجهة الفساد السياسي والعمالة السياسية، من خلال التركيز على تفعيل دور الطلبة السياسي وإعطائهم الحرية الكاملة في إبداء آراءهم السياسية والاجتماعية وحرية النقد والانتقاد لأي ظاهرة أو فكر أو حركة. وبأصوات وترك الحرية للطلبة بتكوين اتحادات أو حركات طلابية ملزمة لهم وهذا أيضًا، يهدف إلى تنظيم الحراك المتنوع في الجامعة، والدفاع عن استقلاليتها وطرح مشاكلها للبحث والنقاش من أجل الخروج بحلول حقيقية وناجعة، والنهوض بالجامعات العراقية.

إن الحراك الطلابي في انتفاضة تشرين قد أضاف الكثير للحركة الطلابية عمومًا، ومنحها نوعًا من الوعي السياسي وروح الجماعة، حيث أصبح الطلاب يهتمون بالوقفات وحضور الندوات الثقافية العامة ويستمعون إلى الآراء بروح عالية  تتسم بالديمقراطية رغم اختلاف وجهات النظر والطروحات، كما أصبح من المعتاد، القيام بمظاهرة أو مسيرة كل بداية أسبوع منذ بداية الحراك تأكيدًا على استمرار الإضراب الاحتجاجي، إضافة إلى السعي الحثيث نحو إيجاد منهجية صحيحة لتطبيق الإضرابات جاء بها الحراك للنشاط الطلابي الجامعي منها عودة الطلبة إلى ممارسة الأنشطة المختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي والندوات العامة والخاصة والإلكترونية  من أجل الولوج إلى مناخ ثقافي وعلمي  يسعى لتطوير فكر وأفكار الطالب العراقي، وذكر عدة أمثلة عن النشاطات الميدانية أهمها نشاط  التي نظمها الطلبة حول عدة قضايا، منها الدعوة إلى توسيع نطاق الحريات، إنهاء أساليب القمع والإرهاب الحكومي، العمل على تغليب سلطة الدولة على سطوة العشيرة، تقوية أجهزة الدولة الأمنية لإنهاء الميليشيات المسلحة والسلاح المنفلت، وساهمت أيضًا بإيجاد نقاشات حول مفهوم الدولة المدنية، مفهوم الحراك والثورة.

حراك طلابي خارج الوصاية

إن المثير للانتباه في هذا الحراك الطلابي هو أنه قادر على التعبئة المستمرة بنفس طويل حتى أثناء العطل التي تتزامن وغلق المؤسسات الجامعية، وهذا كان الجانب المسكوت عنه في الحركة، لأنه ذروة التجلي لصراع الأجيال وتجاوز الأبوة والوصاية على المجتمع التي تمارسها السلطة باستعلائية فجة.  

 إن الحراك الطلابي رغم الاعتقالات والتخويف ظل متماسكًا وقادرًا على تجاوز الأطر التقليدية من منظمات أنتجتها السلطة للتحكم في الطاقات الشبابية التي تمثلها الحركة الطلابية، وبفضل التحولات التي عرفها العالم تكنولوجيًا ومستوى الوعي صار الطلبة في حراكهم محصنين من السقوط في ألاعيب السلطة ومناوراتها، خلافًا للكثير من الأوساط الشعبية التي استطاعت البروباغندا الإعلامية للسلطة أن تزرع فيها الكراهية، وأن تبث فيها الخطابات العنصرية والطائفية، بغرض تحويل الصراع العمودي (شعب/سلطة) إلى صراع أفقي بين جزء من الشعب ضد جزء آخر، ومثال على ذلك هو بروز إشاعة يريدون "صراع شيعي ـ شيعي" لتخويف الناس، لأن الاحتجاجات كانت في العاصمة بغداد والمناطق ذات الأغلبية الشيعية. إن هذه اللعبة المفضوحة حاولت لعبها السلطة في الأوساط الجامعية بتحريض الطلبة على بعض، باللعب على الاختلافات الأيديولوجية بين التيارات المحافظة والحداثوية، لكنها لم تفلح في شغل الطلبة عن الحراك بالتجاذبات الداخلية، رغم أنها زرعت ألغامًا عصية على التفكيك مستقبلًا سواء في الجامعات أو في الشارع العراقي عمومًا، مثل حادثة اغتيال (الجنرال الإيراني قاسم سليماني والقيادي في هيئة الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس) وتوظيفها عقائديًا لحرف سير الاحتجاجات لغير منحى. 

يبقى الحراك هو الحالة الصحية الوحيدة التي حدثت في العراق منذ نشأة الدولة الوطنية عام 1920 وهذا أحدث هزات ارتدادية في بنية المنظومة السياسية  المتهرئة التي انتهى رصيدها واستقصى أسباب وجودها، وبما فتح من نقاشات في الفضاء العام وفي الأوساط الطلابية بما يهيئ لتجديد النخب السياسية التي أصابها الصدأ.

الالتزام الطلابي وبراغماتية الأستاذ 

 إن الحراك الشعبي في العراق قد فتح المجال لعودة المجتمع بكل فئاته إلى الفضاء العام والحقل السياسي، وأحيا قطاعات كنا نعتقدها ميتة، وإن الطلبة يمثلون الفئة الأكبر التي ساهمت في الحراك باعتبارها فئة شبابية أولًا، وفئة نخبوية ثانيًا، باعتبار أن الشباب هم الفئة المهيمنة في المجتمع.

ظل الحراك الطلابي متماسكًا وقادرًا على تجاوز الأطر التقليدية من منظمات أنتجتها السلطة للتحكم في الطاقات الشبابية 

يشكل الطلبة وعاء مسيرات يوم الأحد، إلى جانب الفئات الاجتماعية الأخرى، ولكنهم أيضًا استطاعوا أن يفرضوا يومًا خاصًا بهم ساهم في إحياء رمزية الطالب ومكانته في المجتمع، بعدما اعتقد الكثير أن الجامعة تعيش كمتطفلة على المجتمع والدولة ولا تساهم في دعم الديناميكية الاجتماعية والتاريخية، وهذه الفكرة عملت عليها جميع السلطات المستبدة الفاسدة وفصلت الجامعة عن المجتمع وعن الفضاء العام، ولم تكتف بهذا، حيث توجهت لفصل الطلبة عن الجامعة بفصلهم جغرافيًا عن طريق عدم إكمال الأبنية داخل المجمع العام للكليات، وبهذا تقوم رئاسة الجامعة بإخراج الكليات الإنسانية وتفرقتها بأجزاء متناثرة بعيدة عن الحرم الجامعي الأساسي لأن طلبة الكليات الإنسانية يكونون أكثر حركية وأكثر اعتراضًا وإثارة للطلبة، عكس الكليات العلمية، لكن ليس بالمطلق بسبب الروتين القاتل في دراستهم مثل الطب والهندسة، لذلك تجد هذه الكليات داخل الحرم والأخرى خارجه، لكن ما حصل في تشرين كان قد قلب الحسابات وانطلقت الإضرابات من داخل كليات الطب من جامعة بغداد إلى عموم جامعات العراق، وهذا كان مفاجئًا للجميع، بأن كلية الطب تقدمت الاحتجاج الطلابي على كلية العلوم السياسية والقانون، وخلال أيام تم فرض الحراك كحالة ثورية وطنية، ركز الطلبة على حراك يوم الأحد، وهذا ما أنقذ الحراك الشعبي من الأفول والتلاشي. 

اقرأ/ي أيضًا: ذكرى 25 تشرين.. حضور يرد على "التسويف" ومواجهة مع "راكبي الموجة"

أما عن الأساتذة فكانت نسبة كبيرة بينت  أن دورهم كان هامشيًا جدًا، بل أنه يكاد يكون الدور الأضعف على الإطلاق مقارنة بالفئات الأخرى من المجتمع بعكس البعض منهم/ فكانوا في مقدمة الحراك ينشدون بأعلى الأصوات (نريد وطن) وعمومًا، أن النخب الحاملة للشهادات، عادة ما تمسك العصى من الوسط لكي تقطف بصفة شخصية ثمار ثورات ونضال الشعوب، فهي تعرف أن النظام سيغيّر بعض وجوهه، وسيعتمد على حملة الشهادات الجامعية لإعطاء مصداقية لتغييراته، لهذا كانت حسابات الأساتذة براغماتية.

استغرقت وقت طويل لمحاولة فهم أسباب التفاوت الكبير الحاصل بين الحراك الطلابي في محافظة المثنى والمدن الكبرى كالعاصمة، حيث اعتبر الطالب بدايات الحراك هناك قوية وصادمة بقدر ما كان عليه حراك الطلبة في العاصمة، لكنه فشل عمليًا في الاستمرار مدة أطول. وسنشير لبعض الفوارق الجوهرية بين العاصمة بغداد والمثنى  كنموذج عن مدن الفرات الأوسط والجنوب، رغم  الآلاف في هذه المحافظة شاركوا، إلا أنها ذات مساحة شاسعة، وكثافتها السكانية منخفضة بشكل كبير عن العاصمة، وهذا ما أضعف قوة الحراك الطلابي العددية، حيث يشكل التنقل الدائم لمركز المحافظة  للمشاركة في الحراك مشقة كبيرة، كما أن المركزية السياسية للدولة العراقية في العاصمة حصرًا، وغياب التغطية الإعلامية المناسبة، شكّلا عاملًا نفسيًا سلبيًا في نفوس الطلبة الحركيين،  لكن من خلال التغطية الإعلامية عبر الإعلام العالمي، ووسائل التواصل الاجتماعي، ولد حماسًا هائلًا أدى بمعظم الصفحات الطلابية على "فيسبوك"، للمطالبة بالتحشيد وتبلورت هذه الأفكار باختيار يوم لحراك الطلاب الجامعيين.

إن المنظمات  الطلابية التي اعتادت على اتخاذ موقف مهادن أو مؤيد  تجاه سطوة وقرارات الأحزاب والتيارات السياسية الفارضة نفسها بسطوة المال السياسي الناتج عن الصفقات السياسية الفاسدة، وجدت نفسها مضطرة للسير في ركب الموجة الثورية، وأخذ دور ثانوي فيها، فقد أدركت  استحالة المشاركة في توجيه الحراك بعد أن أخذ الطلبة الذين ضاقوا ذرعًا من ممارساتهم خلال السنوات السابقة زمام الأمور منهم، وكانت التجمعات الطلابية التابعة للأحزاب قد غاب دورها بشكل سريع وكأنها لم تكن موجودة مثل (تجمع فرسان الأمل التابع للمجلس الأعلى الإسلامي، تجمع البشائر التابع لأمين عام حزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي، تجمع همم الطلابي التابع لتيار الحكمة الذي يرأسه السياسي المعمم عمار الحكيم، وكذلك الطلبة الذين هم من التيار الصدري الذي يرأسه السياسي المعمم مقتدى الصدر ذابوا مع جموع الطلبة الوطنيين). إن فترة 17 عامًا من سيطرة أحزاب الاسلام السياسي على البلد والتحكم بالمشهد السياسي والحراكات كانت كفيلة لخلق ضد نوعي وفكري حقيقي مضاد لأفكارهم وتوجهاتهم وأديباتهم الحزبية، حيث أن الفشل والإجرام الذي صدرته هذه الأحزاب للمجتمع كان كفيلًا بصناعة حراك فكري غير أفقهم، فبعد أن كانت الناس تطالب بالحاكم الديني وحكم المعمم، أصبحت ترفع شعارات الدولة المدنية وبروز جيلًا حاملًا للقيم الليبرالية وحرية الفرد، وأيضًا شباب يحملون الفكر اليساري وشباب من الشيوعيين، لكن الاهم من هذا كله، هو الفئة التي بقيت على توجهها الديني، لكن ترفض التدخل بالشأن السياسي، وهذا بالضبط ما توجهت له مرجعية النجف الدينية التي طالبت بدولة مدنية يحكمها القانون، وكان هذا الموقف هو بسبب التنوع الثقافي والتعدد الفكري الذي جعل أتباع المرجعيات يدخلون بحوارات وتقارب وجهات النظر، فأثر على آراء الكثير في ضرورة العيش المشترك، وخاصة بعد أن أصبحت الاحتجاجات الشعبية هي مكان تلاقي المطالبين بالإصلاح من أبناء الشعب كله، عَلمانيين وعِلمانيين ودينيين وملحدين ولا أدرية، حتى هذا التأثير والتلاقح الثقافي ترك أثره من خلال بروز شباب قد تركوا جهاتهم الدينية المسيّسة وغير الدينية كأيديولوجية للحكم، وكان هذا قد شكل خطرًا كبيرًا على وجود الزعامات الدينية التي بدأت تفقد الكثير من أتباعها بسبب الفشل والدمار للبلد والأنسان.

كان هناك تضامن وطني من الجامعات التي لم تستطع أن تدخل الإضراب بسبب حالة المحافظات التي كانت القبضة الأمنية فيها أشد من غيرها، حيث أنها تشمل المناطق الغربية وشمال بغداد (محافظة نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى وكركوك)، وكان الخوف من استخدام المادة 4 إرهاب بصورة غير مألوفة ضد كل من يحاول أن يحتج أو يعترض فلم يكن أمام الطلبة إلا حالة التحدي وإعلان الإضراب الوقتي المحدد موجهين رسائل التضامن مع باقي الجامعات والزملاء لهم حيث وقف الطلبة بشكل مهيب وملفت بوقفات تضامنية قد انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، ورأينا كيف دار الجدل بين الطلبة والأساتذة الذين حاولوا منع وصرف الطلبة عن ممارسة حق الاحتجاج والتضامن لم تكتف هذه الجامعات بالوقفات التضامنية حيث قامت بإقامة مراسيم (صلاة الغائب) داخل الجامعات على أرواح الشهداء الذين سقطوا في الاحتجاجات برصاص الميليشيات وإرهاب الأحزاب الفاسدة ودخانيات قوات الشغب التي أبدت اسوأ موقف كان يمثل جهة أمنية واجبها حماية الشعب العراقي، لكنها فعلت العكس بإسقاطها الكثير من الشهداء الشباب الأبرياء.  

الجامعات في المناطق الغربية والشمالية تضامنت وطنيًا مع الطلبة المحتجين في باقي المحافظات 

إلى اليوم لم يشعر المحتجون العراقيون من الطلبة وعامة الشعب بأن هناك توجه جدي وحقيقي من أجل إنقاذ بقايا الدولة من دعاة اللادولة الذين يصرون بالدفع نحو الفوضى والاقتتال الداخلي كي يستعيدون هيمنتهم وسيطرتهم بالسلاح المنفلت الذي يمتلكونه، والمال السياسي الفاسد وغير الشرعي، فما زالت قوى الشعب تطالب بدولة تحفظ كرامة الإنسان العراقي وتحقق له الحياة الكريمة وانتشال البلد من الواقع المتهالك، والتأكيد على التحقيق بعمليات القتل والقمع التي جرت أثناء انتفاضة تشرين الوطنية.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

25 تشرين.. رفاق صفاء السرايّ يطلقون جولة جديدة من الاحتجاجات

25 تشرين.. فاصل تاريخي بطله التحدي