28-نوفمبر-2019

الاستمرار في قمع المتظاهرين السلميين قد يؤدي إلى إخلاء جبهة الرافضين للانقلاب (فيسبوك)

يُعد العراق في صدارة دول المنطقة لناحية الانقلابات العسكرية في تاريخه الحديث، وعددها الكبير، سواء أكانت ناجحة أم فاشلة، مقارنة بالعمر القصير لنشوء الدولة في عشرينيات القرن العشرين.

رغم سقوط نظام صدام حسين في 2003 بفعل الاحتلال الأمريكي، إلا أن ذاكرة العراقيين لم تمنحهم فرصة التخلص من فكرة الانقلابات والحكم العسكري

وفي ذاكرة العراقيين، العديد من قصص الانقلابات التي تحصل ليلًا والناسُ نيّام، إذ تستولي جماعة عسكرية على السلطة، وتقصي الممسكين بزمامها، وهكذا دواليك.. دون تدخل شعبي، أو تأييد مسبق، ما خلا التأييد الذي يحدث عقب نجاح الانقلاب، فرحًا بزوال الحاكم آنذاك، وأملًا بتغيير واقعي يرتجى من تغيير الحاكم.

اقرأ/ي أيضًا: الدعوة للنظام الرئاسي.. أحزاب "تتاجر" بالاحتجاج إيرانيًا ودكتاتورية للأغلبية!

أدت الانقلابات المتوالية إلى وصول حزب البعث للسلطة، ثم جرى انقلاب ناعم ـ إن صح التعبير ـ داخله، تسلّم صدام حسين على أثره الحكم، وأقصى خصومه وأعدائه ومنافسيه في داخل الحزب قبل خارجه، ومُسكت السلطة بقبضة من حديد، ساعد ذلك الحرب العراقية الإيرانية التي كانت مبررًا لكل إجراءات القمع بحق المعارضين لصدام حسين شخصيًا، أو حزب البعث بشكلٍ عام، تحت مسمى الخيانة وغيره.

رغم سقوط النظام في ربيع 2003 بفعل الاحتلال الأمريكي، إلا أن ذاكرة العراقيين لم تمنحهم فرصة التخلص من فكرة الانقلابات والحكم العسكري، وبقيت حكايات تدخل الجيش و"القبض على الرئيس" وبيان رقم واحد، بل أقحم العراقيون فكرة الانقلاب بالتظاهرات الشعبية التي يصنعها مواطنون في السنوات السابقة، وربما كانت تسمية "الثورة" التي أطلقت على الانقلابات، وتحديدًا الذي حدث في 1958، والمقبولية النسبية التي يحظى بها عبد الكريم قاسم لدى شرائح الفقراء، كانت إحدى العوامل التي خلطت المفاهيم على العراقيين، إذ لا يوجد تمييز بين الفعل الاحتجاجي الذي يصنعه ويقوده مواطنون مدنيون، وبين الحركة التي يصنعها الدبابات ويقودها الضباط العسكريون.

لا نتحدث عن ظاهرة غير مفهومة، أو ميزة سلبية، بل هي حالة طبيعية وموضوعية، كون ذاكرة الشعب تخلو من سجل للثورات؛ كما أن عقودًا من الحكم الديكتاتوري وإقصاء الأحزاب والنشاط السياسي وعزل المجتمع عن العالم، منع العراقيين من فرصة التنظيم بأشكاله، وأبعدهم عن التسييس والمشاركة في الفعل السياسي، لذا فأن الفكرة العسكرية لم تُغادر ذهنية العديد من الأجيال.

لكن الجيل الجديد الصاعد بعد 2003، واجه أغلب مظاهر اللا دولة، من سيطرة الميليشيات والجماعات الإرهابية على الشوارع ومفاصل الحياة العامة، وغياب دور الدولة في "احتكار العنف" وضبط أمن المجتمع، وضعف أجهزتها العسكرية في تمثيل الجهة المُحايدة التي تضبط إيقاع المشاكل الاجتماعية، حتى بات اللجوء إلى الحكم العشائري أمرًا طبيعيًا تعترف وتعمل به مراكز الشرطة ذاتها، كما تقف الأجهزة الأمنية عاجزة أمام النزاعات العشائرية، ويُهدد قادتها بالمقاضاة وفق الحكم العشائري في حال التدخل "الدستوري" لفض النزاع.

المجتمع العراقي لم يقف عند الانتخابات ومقاطعتها في التعبير عن رأيه السياسي، بل دخل ساحات التظاهر إعلانًا عن حالة انسداد وصلت ذروتها وفي مثل تلك الحالة، لا ينتظر المجتمع من الجيش البدء بالفعل

قد يكون "انهيار الجيوش" من أسوأ ما يُصادف أي دولةٍ كانت، كونها الشرط الأهم من شروط الدول ووحدتها وأمنها؛ لكن البناء الخاطئ للجيش العراقي الجديد، وانهيار القطعات ـ بغض النظر عن الأسباب ـ أمام عصابات إرهابية، زاد من اعتماد المجتمع على نفسه، وتمثّل ذلك بالتطوع تحت دعوى المرجعية لـ"الجهاد الكفائي" لوقف تقدم تنظيم داعش. بالتالي، أدى ذلك تدريجيًا إلى شبه إجماع شعبي بعدم انتظار الانقلاب العسكري لتحقيق التغيير، والنزول بدلًا من خيار الانقلاب إلى الشوارع في تظاهرات واعتصامات ووقفات، واجه بعضها العنف من قبل جهاز الدولة العسكري ذاته.

اقرأ/ي أيضًا: الشرعية الثورية والشرعية السياسية

لقد سُيّس المجتمع العراقي، ودخل في الفعل السياسي من أوسع أبوابه. لم يقف عند الانتخابات في التعبير عن رأيه السياسي، كما لم يقف عند مقاطعة تلك الانتخابات، بل زج بنفسه في ساحات التظاهر إعلانًا عن حالة انسداد وصلت ذروتها مع الطبقة السياسية. وفي مثل تلك الحالة، لا ينتظر المجتمع من الجيش البدء بالفعل، رغم أن الأخير لا زال يحظى باحترام الكثير من الشرائح المجتمع مقارنة بالقطاعات الأمنية الأخرى.

قبل اندلاع انتفاضة تشرين وأثناءها، تحدثت بعض الشخصيات المنتمية لجبهة المتحالفين مع إيران عن انقلاب عسكري تسعى له واشنطن، وادّعى الكثير من "نجوم الشاشات" أن وجود الحشد الشعبي يقطع الطريق على أي انقلاب، حتى قالها رئيس هيئة الحشد فالح الفياض جهارًا وهدد بالتدخل. جاء ذلك التصريح بالتزامن مع الإجراءات التي اتخذت بحق الضابط في جهاز مكافحة الإرهاب عبد الوهاب الساعدي، الذي حظي بتضامنٍ شعبي غير مسبوق مع شخصية عسكرية.

وفي سياق الحديث عن التضامن، كان منظر وزير الدفاع السابق خالد العبيدي وهو يهتف ضد الفساد والفاسدين بنفسٍ غاضب داخل قبة مجلس النواب حين استجوابه، وفي أجواء الحرب على التنظيم، "مدغدغًا" لمشاعر بعض العراقيين الذين يريدون الخلاص، والخلاص وحده، وربما استشعرت القوى ذاتها الخطر من صعود نجم "وزير حربي"، وقررت إقالته بتهم فساد، يعرف المطّلعون على الشأن العراقي أنها كسائر تهم الفساد لم تكن يومًا الدافع الحقيقي وراء إقصاء مسؤول هنا أو هناك.

تناقضت التحليلات حول البيان الذي نُشر على حسابات جهاز مكافحة الإرهاب في "فيسبوك" و"تويتر" الذي أعلن فيه "العصيان العسكري" والانقلاب على السلطة؛ فانقسم الناس بين مصدّقٍ لرواية الجهاز بأن الموقع مخترقٌ، وبين من قال إنها عملية "جس نبض" لردود فعل المجتمع حول مثل هذه الخطوة؛ لكن ما يهمنا هنا هو الردود ذاتها، إذ انقسم الناس أيضًا بين فرحٍ بالانقلاب ورافضٍ له.

وجود أصوات رافضة للانقلابات العسكرية يدل على قوالب فكرية جديدة ينطلق منها هذا الجيل الطامح للديمقراطية والدولة المدنية التي تحكم على أساس الحرية والعدل بين المواطنين

إن وجود أصوات رافضة لفكرة الانقلابات العسكرية من داخل المعسكر الاحتجاجي رغم كل عيوب السلطة وفسادها وتعنتها، يدل على قوالب فكرية جديدة ينطلق منها هذا الجيل الطامح للديمقراطية والدولة المدنية التي تحكم على أساس الحرية والعدل بين المواطنين؛ مع وجود فئة واسعة تؤيد الحل الانقلابي للخلاص من الحكم الطائفي والفساد الذي استشرى وتغلغل في مفاصل الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: ثقافة الاستقالة في العراق.. من العهد الملكي حتى عبد المهدي

حقًا، هناك ما يدعو للتفاؤل فيما يخص ردود الفعل إزاء الانقلابات العسكرية، مع مجتمع مسيّس فعّال رغم كل محاولات تدجينه، تارة بالأفكار الطائفية، وتارةً عبر منظمات المجتمع المدني الداعية للسلام فقط دون أي خارطة طريق للإصلاح؛ لكن ذلك لا يمنع أن تؤدي حالة الانسداد الحاصل في العملية السياسية، واتخاذ الحل العنفي والعسكرة والقبضة المسلحة مقابل التمسك بالسلمية من جانب المتظاهرين، إلى إخلاء جبهة الرافضين للانقلابات من المؤيدين، وتعزيز الجبهة المجتمعية التي لا ترى حلًا إلا بالسلاح، وسلاح الجيش أجدى من سلاح الناس لاعتبارات الذاكرة والحالة الإقليمية والدولية وسرعة الحسم ومقبوليته. وبطبيعة الحال، لا يُسأل هنا عن عواقب ذلك سوى الممسكين بزمام السلطة الآن.

إن البدء بالإصلاح الحقيقي ومعالجة القضايا الرئيسة وليس الشكلية، التي تشّل حركة الدولة واقتصادها، خيرٌ من التعنت والمكابرة والاعتماد على ملل الناس،  فذلك يجبر المواطنين على التمسك بأي "منقذ" بغض النظر عن هويته، للتخلص من سلطة تثابر من أجل الحصول على المركز الأول في لائحة "أعداء الشعب العراقي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

معركة "الوجود المريح".. النفوذ الأمريكي والإيراني

التنظيم السياسي.. وقاية من الدكتاتورية المضادة