10-نوفمبر-2019

خلخلت انتفاضة تشرين أركان السلطة (Getty)

لم يترك بعض "المتعلمين" وصفًا لاذعًا تجاه أنفسهم إلا واستخدموه. ولو كانت هذه "الشتائم" تقتصر على الناس البسطاء لهان الأمر، وإنما لا يزال بعض أنصاف المثقفين يعلنون نفورهم الشديد تجاه العقل الجمعي. كما لو أن الناس تنتظر ما يبديه هؤلاء من "ملاحظات قيّمة" لكي يصححوا المسار. غير إن الأحداث جاءت بما لا تشتهي قريحة الحفّاظ وأرباب المحاكاة المتخومين بمقولات جاهزة وآليات جامدة يسقطونها على واقع مختلف تمامًا، فمن هنا دائمًا ما تجد نكات وتهكّمات مضحكة تجاه هؤلاء لا تهتم بما يقولون أو يكتبون، بقدر ما تهتم بمواضيعهم كمادة كاريكاتورية للمتعة وقضاء الوقت!

 لا زال الكثير من المثقفين يتجاهلون ذلك التلاحم الأسطوري الذي أبداه شباب انتفاضة تشرين، وما حققه ذلك "العقل الجمعي" من اختراقات عظيمة خلخلت أركان السلطة 

 لا يزال هؤلاء يتجاهلون ذلك التلاحم الأسطوري الذي أبداه شباب انتفاضة تشرين، وما حققه ذلك "العقل الجمعي" من اختراقات عظيمة خلخلت أركان السلطة في الوقت الذي عجز هؤلاء، بأرباعهم وأنصافهم وكليّتهم من أحداث ثغرة ولو بسيطة في دعامات السلطة. لقد اختاروا الطريق الأسلم: "النقد" المكرور والبائس والرتيب، فيما يتعلّق بالجموع، وغرائزيتها واللاعقلانية التي تتفشّى في أوساطها، محاولةً منهم التغطية على فشلهم الرهيب من المساهمة في هذا التغيير.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين.. فرصة لتقييم الذات

من المؤكد، لا ندعي إن هذه الجموع ليست فصائل من الفلاسفة، أو ألوية من الباحثين، أو حشود من المفكرين، والدليل على ذلك، إن ما قامت به هذه الحشود يعجز عنه هؤلاء الأنصاف. على سبيل المثال: لا يجرؤ أحد منّا القفز على قنبلة دخانية والإمساك بها ووضعها وسط دلو ماء لإطفائها، ولا نجرؤ على تسلق الحواجز الكونكريتية، مثل نمور جائعة، لتخويف القوات الأمنية. كما نعجز كليًا عن المرابطة في المطعم التركي لساعة واحدة  للتخفيف عن المتظاهرين ومنع القناصين من المرابطة هناك؛ إن الشيء الذي برع به هؤلاء الأنصاف، بل الأرباع، هو حالة القشعريرة التي تنتابهم حينما يذكرون العقل الجمعي.

وبلا جدال أيضًا، فإن لحقل الفكر والمفاهيم ميدانه، وميدان التطبيق له رجاله؛ فلا يمكن تحميل المثقفين، على سبيل المثال، المرابطة في ساحات القتال، ولا يمكن، أيضًا، تكليف عامّة الناس بمهام الفكر والبحث الأكاديمي. لكن المشكلة ليست هنا، وإنما في إفلاس بعض المثقفين من الناحيتين!، أعني، مهمة التنظير، ومهمة التطبيق؛ فما نسمعه من بعض الأوساط الشعبية وترديدهم هذه العبارة "كفى تنظيرًا" ليست صحيحة برأيي، ذلك أن أيقونة من العمل تحتاج إلى طن من التنظير "بتعبير أنجلز. ففي العبارة تجاهل كامل لأهمية التنظير، إذ لو كان هنالك منظرون لما وصلنا إلى هذه المأساة، ولما انتهى بنا الحال إلى شتم الثقافة والمثقفين، فخلاصة الموضوع: إنهم مفلسون تنظيرًا وتطبيقًا، وهنا مكمن العلّة.

قد توحي الكلمات أعلاه بظهور تقديس جديد للعقل الجمعي، غير أن الأمر أبعد من ذلك، وإنما محاولة تسليط الضوء، بدون شيطنة أو تقديس، على قوة هذا العقل الجمعي، وتسليط الضوء على حالات الترف الفكري التي لا تزال ملتصقة بأذهان بعض "المثقفين" الذين يتناسلون في مواقع التواصل الاجتماعي ويبدون بعض التذمّر من هذا العقل "غير المنظم". فهذا صحيح بعمومه، لكن النقطة التي يجهلها هؤلاء أنهم لا يقدمون ولا يؤخرون، ليس لأن الناس تفضل الغريزة على العقل، وإنما لأن بعض المنتمين للوسط الثقافي، هم للسلطة أقرب منهم للجماهير، وللترف الفكري أقرب منهم للواقع، وللأوهام أقرب منهم إلى الحقائق الموضوعية التي يفرزها هذا الحدث الكبير.

المفارقة الغريبة، هو أن السلطة في المنطقة العربية لا تخشى المثقفين على الإطلاق، ليس لأنهم لا يمتلكون سوى "القوة الناعمة"، وليس لأنهم لا يتمتعون بشعبية أو قدرة إلهامية، وإنما تعرف مدى رخاوتهم وانتهازيتهم وسرعة انقيادهم للإغراءات المادية. فقد أحالتهم السلطة من مصدر قلق لها إلى مصدر اطمئنان! فمن هذه الناحية يغدو العقل الجمعي هو العدو المشترك لكليهما، أعني المثقف "الخائن" والسلطة!

 بعض المنتمين للوسط الثقافي، هم للسلطة أقرب منهم للجماهير، وللترف الفكري أقرب منهم للواقع، وللأوهام أقرب منهم إلى الحقائق الموضوعية 

 إن السلطة في منطقتنا العربية، حينما تريد قيادة بعض المثقفين من أذنيه، فما عليها سوى تقديم عروضها المغرية، والاستفادة من الإمكانيات الذهنية التي يتمتع بها المثقف، وبالطبع لا يوجد منصب مهم ومغرٍ للمثقف، يتماشى مع أوهام العظمة التي تفترس أعماقه، غير منصب "المستشار الثقافي"، فلهذا المنصب "إلهامات" عجيبة، فهو يحيلك بين ليلة وضحاها إلى مثقف "أبوّي" ومتوازن ومسالم، وعقلاني، لا ينساق مع متطلبات العقل الجمعي، لكن لا بأس أن يطل علينا بين الفترة والأخرى ليلعن تضامنه النرجسي والخجول مع أوساط الفقراء. ترى، ماذا استفادت السلطة في هذه الفترة من مستشاريها الثقافيين، وماذا نصح المستشارون أسيادهم في السلطة؟ مؤكد - وهم يعلمون- لا رأي لهم ولا اهتمام، لا يقدمون ولا يؤخرون، سوى مرتب شهري دسم لا ينسجم مع متطلبات العقل الجمعي.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الثابت والمتحوّل في احتجاجاتنا: دروس للمشرق العربي

ثقافة السلطة تحت مطرقة الاحتجاج