22-نوفمبر-2017

كفر الشعب العراقي بالدولة لفشلها في تحقيق غاياته المشروعة (أحمد الروباي/ أ.ف.ب)

تتثاقل المهمة لتصبح تاريخية مفصلية، حين تحتكر قيادة ما كل أنواع السلطة والقيادة والتخطيط في البلاد، دون عملية ديمقراطية، أو تماهٍ شعبي على شكل مشاركة "فعلية" مع الدولة، رغبةً بتحقيق متطلبات الشعب النهضوية أو قومية أو دينية أو اقتصادية... إلخ. فتدّعي تمثيلها كل القيم والطموحات، وتتبنى عملية التحديث والنهضة والاستقلال بذاتها، حتى تُصوَّر في ذهن الجماهير كأنها قائد مخلص موعود. ويصبح فشلها في أي عملية مما سبق هو خلع لشرعيتها، التي في غالب الحالات العربية حصلت بانقلاب عسكري، وانهيار نموذجها المقنع والساحر المؤمِل. 

اصطفاف الجماهير مع السلطة لتحقيق هدف ما، يحتاج لنجاحات حقيقية ومتراكمة لا فقط البروباغندا من قبل أجهزة الدولة

يشبه الموضوع هنا إلى حدٍ ما العلاقة بين الطفل وأبيه، فهي ليست علاقة تكاملية، بل اتكالية مبنية على خياري الأخذ أو الرفض والتمرد، لا الأخذ والعطاء.

اقرأ/ي أيضًا: "الدولة ضد الأمة".. خراب العالم العربي 

إن اصطفاف الجماهير مع السلطة لتحقيق مبتغى معلن عنه من قبلها، يحتاج إلى المزيد من النجاحات الحقيقية والمتراكمة، لا فقط تكرار المبتغى عن طريق أجهزة إعلام الدولة. وبغياب المؤسسات المدنية التي تعمل خارج نطاق السلطة، وغياب العملية الديمقراطية التي تمثل مراقبة دورية لفاعلية وأداء السلطة، مع اقتصاد ريعي يشل الحركة السياسية في جانب من البلاد العربية، واقتصاد فاشل في جوانب اخرى من البلاد متمثل برأسمالية نخب حاكمة يشل الحركة الاقتصادية بالتالي النهضوية؛ يجعل من المهمة الملقاة على عاتق الدولة بمثابة المهمة المستحيلة. إذ دخلت العديد من الظروف التاريخية، والتحديات الجسيمة، مع العوامل الداخلية غير المؤاتية، لتضع العصا في عجلة التقدم العربي كمجتمع وكدولة تحديث معاصرة.

تتكرر في بلدي العراق، عبارة مشهورة على المستوى الشعبي، وهي "ماكو دولة"، بمعنى ليست هناك دولة. ولو تفحصنا السياق الذي تُذكر فيه هذه العبارة، لوجدنا النسبة الأعلى التي تتكرر فيها هذه العبارة تخص عمليات عدم ضبط الانسياب. بدءًا من أعمال العنف، وعدم احترام القوانين، وانتشار السلاح، وفوضى المؤسسات، وصولًا إلى انهيار البنى التحتية والشوارع والجسور وتخريبها، والتجاوز على أراضي الدولة من قبل الناس أو المسلحين. وهذا بطبيعة الحال، وعيٌ حقيقي بدور الدولة في احتكار سلطة القانون، وخصوصًا احتكارممارسة العنف. وهو ينفي ادعاء أن الشعوب العربية لا تفهم دور الدولة.

في العالم العربي، اختُصرت الدولة في الحاكم، وذلك بسبب انعدام الحراك الحزبي والتعددية السياسية وبالطبع تداول السلطة بشكل ديمقراطي

المشكلة في أن الأنظمة المتوالية على العراق منذ تأسيسه حتى احتلاله، اتخذت لنفسها دور التمثيل والعمل بالنيابة عن الشعب في كل مفاصل الحياة، حتى غدت الجماهير تلعن الدولة حين تستشعر انهيارًا في الذوق الفني، أو فشلًا رياضيًا طبيعيًا، وتحملها مسؤولية كل المشاكل التي يقود المجتمع "عمليًا" جزءًا فاعلًا منها.

في أيام الحصار الاقتصادي، دعم نظام صدام حسين الزراعة بشكل كبير، ليعوض الكارثة الاقتصادية باكتفاء ذاتي، حتى غرق الفلاح مثلًا في السماد الموزع من قبل الدولة فوق الحاجة المطلوبة. وما إن سقط النظام، حتى رفعت الدولة يدها عن ذلك الدعم، وفتحت الأسواق للبضاعات الأجنبية، وأصبح من المنطقي أن تسحب الطلب من المنتج العراقي، فانهارت الزراعة، ومعها العديد من المجالات وأصحاب المصالح المتعلقة، الذين كانوا يشتغلون بفضل العمل الزراعي.

ولأن لا حراك حزبيًا ولا تعددية سياسية ولا نظام ديمقراطيًا راسخًا يسمح بتداول السلطة، فإنّ الدولة اختصرت بالحاكم، وهذا ما زاد الطين بلة. وأجد في وصف المرحوم الشيخ محمد عبده، لحال أهل مصر في منتصف القرن التاسع عشر، ضرورة لاستحضاره في مثل هذا الموقف، إذ قال الشيخ إن "المصريين يرون شؤونهم الخاصة والعامة ملكًا لحاكمهم الأعلى، يتصرف بها حسب إرادته. وأن سعادتهم وشقاءهم مرتبطان بعدله أو ظلمه، ولا يرون لنفسهم رأيًا في إدارة البلاد، او إرادة في تقديم الصلاح لأُمتهم، فعلاقتهم بالحكومة مقتصرة على ما تكلفهم به وما تضربه عليهم". وهذا الوصف الدقيق، ينطبق على معظم البلاد العربية التي نعرفها، والمبتلاة بمصيبة انهيار الدولة.

إن العلاقة بين الشعوب العربية، وبين حكامها ودولها، ونظرًا للظروف التاريخية التي أجبرت الشعوب أن تُحمّل الدولة ونخبها مسؤولية تاريخية لنهضة عربية شاملة، وابتعاث قومي يزج العرب في ركب الحضارة العالمية؛ أصبحت كالعلاقة بين الطالب مَصلَحِيُّ الإيمان، الذي لم تسنح له فرصة القراءة، مع ربه. فهو يدعو الله أن يُلبي له دعواه في النجاح والتفوق، وما إن فشل، راح يستعين بالغش (الصلات القرابية والعشائرية والطائفية)، وكَفَر بربه.

كفَر الشعب العراقي بالدولة، ليس لكرهه بمفهومها، وإنما لفشلها في تحقيق غاياته ومتطلباته المشروعة

نعم، لقد كفر شعبنا بالدولة، لا كرهًا بمفهومها، بل لفشلها في تحقيق غاياته المشروعة. ولا عودة للإيمان، دون أخذ زمام المبادرة من قبل الجماعات الشعبية والفرعية الفاعلة، عن طريق ديمقراطية حقيقية، لتحقيق النجاح، وبناء الدولة بصيغتها الحديثة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الأقلية العراقية" في العراق

العراق: خارطة التحالفات السياسية في طريقها للتغيير