08-فبراير-2016

المحاصصة المناطقية في ليبيا تهدد ثورة 17 فبراير(عبد الله دوما/أ.ف.ب)

على مستوى العملية السياسية وبتجاوز المستجدّ الميداني وصراع القوى على الأرض، تعيش ليبيا حاليًا منحيان سياسيان متوازيان، يتعلّق الأوّل بتركيز المؤسسات الانتقالية وهي الحكومة ومجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة وفق ما حدده اتفاق الصخيرات، فيما يتعلّق الثاني بصياغة دستور البلاد من لجنة الستين. كلا المنحيان متوازيان متكاملان حسبما تم ضبطه، على الأقل حسب الورقة الأممية، حيث تنحلّ المؤسسات الانتقالية بعد إنفاذ الدستور وسريانه بتنظيم أول انتخابات على ضوئه، ولكنهما يشتركان في تمثّل المحاصصة المناطقية كضابط حسم فيهما.

في ليبيا، هناك بوادر تسليم من الفاعل السياسي والاجتماعي بالمحاصصة المناطقية واقعًا وضرورة لا بديل عنها رغم خطر تقويض دولة المواطنة

تتجلى المحاصصة المناطقية كعنوان تسوية في العلن في المسار الأول، وشعار ترضية في أروقة لجنة الستين في المسار الثاني. والخشية، والتي تتجاوز مستوى التحذير من القادم إلى مستوى التنبيه من الجاري، هو تركيز تقاليد محاصصة مناطقية تنسحب من تمظهرات عملية الانتقال الديمقراطي الجاري، إلى مستوى دعائم دولة ما بعد 17 فبرير، وهذا هو الخطر المبين.

والأنكى هو وجود بوادر تسليم الفاعل السياسي، ومن ورائه أساسًا الفاعل الاجتماعي، بهذه المحاصصة كتسوية لازمة لا بديل عنها في الحاضر وفي المستقبل. وليكون السؤال الأساسي مستقبلًا في ليبيا "من أين أنت" بدل سؤال "من أنت" في تقويض لدولة المواطنة. وهو ما يعني انضمام ليبيا لدول "المحاصصة المشرعنة" في المجال العربي على غرار لبنان والعراق، والتي توطّنت فيها المحاصصة كعنوان أساسي للتسوية والحسم من زمن الأزمة إلى زمن الاستقرار في نسف لمشروع الدولة الوطنية وقيم المواطنة.

فمنذ إسقاط نظام القذافي قبل أزيد من 4 سنوات، لم تبرز ملامح المحاصصة المناطقية بشكل واضح كما تبينه المفاوضات الأخيرة، تشكيل المجلس الرئاسي والحكومة، وفق ورقة الصخيرات. وهو ما يعني، بالموازاة، مدى صعود مؤشر التوتر الجغرافي كضابط دفع وحسم في الأزمة الليبية وتحديدًا منذ وجود الثنائية المؤسساتية على المستوى التشريعي والحكومي، أي وجود مجلس وحكومة في الشرق ومجلس وحكومة في الغرب.

والأخطر على النحو الذي تمت الإشارة إليه هو ارتفاع عنصر التوتّر الجغرافي في لجنة الستّين على عكس زمن انتخابها قبل قرابة سنتين، خاصّة مع بوادر تركيز غرفة تشريعية ثانية تقوم على أساس المحاصصة الجغرافية بين الأقاليم الثلاثة، وهو ما دفع إلى تحفظ عدد هامّ من نواب اللجنة واستقالة بعضهم. وخاصة في ظلّ الجدل حول تحديد عاصمة ليبيا، ومنها دعوات لوجود 3 عواصم في ليبيا، عاصمة في كل إقليم.

تصاعد الجدل حول تحديد عاصمة ليبيا مؤخرًا ومنها دعوات لـ3 عواصم في ليبيا، عاصمة في كل إقليم

في هذا السياق، لا يجب تهميش العنصر الجغرافي في الساحة الليبية بل لا يمكن فهم المشهد الليبي وتبيّنه دون هذا العنصر المحوري. حيث لا يمكن تجاوز المعطى التاريخي المتعلّق بوجود التقسيم المناطقي الثلاثي، طرابلس وبرقة وفزان، قبل وجود الدولة الليبية في شكلها الحالي، بحيث أن التقسيم الجغرافي، على مستوى تمثله السياسي، هو أساس نشأة الدولة الحديثة تحت عنوان توحيد الأقاليم الثلاثة.

وفي جانب آخر، لم يكن هذا العنصر الجغرافي بالهامشي في تكوّن نظام القذافي وبقائه لأربعة عقود بل يتأكد هذا العنصر، حيث يتكثف بالضرورة في إطار التحالف القبلي الذي أرساه القذافي. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تندلع أولى تحركات ثورة 17 فبراير من جهة الشرق، التي يرى أهلها أنهم غُبنوا زمن القذافي وسُلبت حقوق إقليمهم خاصة فيما يتعلق بالثروة النفطية، ولتنشأ الدعوات الفيديرالية من الشرق التي لم تلق بالنهاية دعمًا شعبيًا، إضافة إلى دعوات شاذة للانفصام التام عن الدولة.

وبالتالي فإن ارتداد هذا العنصر لساحة النقاش والحوار بين الفرقاء الليبيين هو من طبيعة الأصل، غير أن الخطر يكمن في اعتباره دعامة تأسيس، وليس عنصر توجيه، وتبيّنه كركيزة بناء، وليس مؤشر تأثير.  كل الخشية أن تصبح المحاصصة المناطقية هي العنوان الأساسي القادم في ليبيا، وتصبح رئاسة الحكومة، أو رئاسة البرلمان، أو وزارة ما، حكرًا على إقليم ما، وتلك هي الصورة السوداء لحلم 17 فبراير.

ولذلك يجب على الليبيين، وأولهم الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، أن يتبيّنوا في هذه اللحظة مخاطر ما يقدمون عليه، وحجم الجريمة التي يقومون بها بحقّ شعبهم ووطنهم وثورتهم، وذلك بأن يقوموا بالتنازلات اللازمة، وبتغليب المصلحة الوطنية الشاملة على المصلحة الجهوية الضيقة، وبصياغة دستور مواطني ينتصر لقيم 17 فبراير. وذلك قبل أن يذهب القطار في سكّة معطوبة منذ بدايتها سوف لن توصل القطار بالنهاية للمحطّة المرجوّة.

اقرأ/ي أيضًا: 

الأمم المتحدة واللعب بالنار في ليبيا

ليبيا ومخاض التأسيس..