09-مارس-2020

انغمست المذاهب المختلفة في هويات مغلقة للحد الذي وصلت فيه لتكفير الآخر المخالف (فيسبوك)

على الرغم من إجماع المذاهب الإسلامية على النقاط الرئيسية في الدين الإسلامي؛ في الأصول كالتوحيد والنبوة والمعاد، وفي الفروع كالصوم والصلاة والحج والزكاة، فضلًا على أن إلههم واحد وكتابهم واحد وقبلتهم واحدة. حتى أدوات استنباط الحكم الشرعي هي نفسها من منطق وفلسفة ولغة، وفي هذا الجانب تتوزع حصص الانفتاح والتعصّب على كلا الفريقين؛ فهنالك من يعدم العقل ويرفع من شأن النقل كالحنابلة السنة والإخباريين الشيعة. وبالطبع لا ينكر بقاء الفلسفة في أوساط الشيعة فيما ضمرت وتلاشت نسبيًا عند السنة، إلّا أن أعداء الفلسفة لكلا المذهبين لا زالوا أحياء يرزقون!

المذاهب تبكي من خشية الله وتتعبد بتعاليمه وتحبه، وتشتاق إلى القرب منه. لكنّها لم تستثمر هذا القرب فيما بينها لتضرب لنا مثالًا للتسامح والرحمة والشفقة

 عمومًا ليس هنا محل الشاهد، وإنما ما نحاول توضيحه في هذه العجالة انغماس الفريقين في هويات مغلقة للحد الذي وصلت فيه لتكفير الآخر المخالف سواء بالتلميح أو التصريح. ويأتي هذا التكفير أو الخروج من الملّة بدعوى الطائفة الحقّة؛ وهنا لا بد أن يتحدد مصيري، إمّا أن أكون في هذا المذهب وبخلافه ستكون الجنة التي عرضها السموات والأرض محرمة علي. لماذا محرمة عليّ؟ لأنني لم أفنِ عمري للبحث عن الحقيقة التي تضمرها أحدى هذه المذاهب!

اقرأ/ي أيضًا: دائرة الجدل المغلق بين الإسلاميين وخصومهم (1ـ2)

الفريقان يعلمان أن السجال العقائدي لا يعزز الإيمان، ولا يرسّخ أحقية هذا الفريق أو ذاك، أللهم إلا بالخلافات السياسية، يوم تكون رايات الفتنة مرفوعة فسيكون لصاحب السلطة المهيمنة القدرة على الإقناع! وبخلافة لا يكون لقلب المؤمن مدخلًا آخرمقنعًا سوى السلوك، أما المتبقّي من العلوم وفنونها واختلافها الطفيف بين المذاهب الإسلامية، فهو لا يعدو أن يكون وجهات نظر لا تستدعي كل هذه القطيعة. لكن الطائفيين لا يريدونه مجرد اختلاف، ولا يهدأ لهم بال إلا بالتناحر الطائفي، وهذا ما يفسر جمودهم وتكرارهم الممل طيلة قرون.

 معلوم أن سيف الإمامة هو الأمضى من بين كل السجالات، هذا صحيح تمامًا، غير أنه لم يوضع في سياقه الصحيح؛ وهو الخلاف العقائدي أو السياسي ذو البعد التاريخي، لأن المسلمين حتى لو تعبّدوا بآراء من يؤمنوا بأحقيتهم، فلا زالوا يستخدمون علم الرجال لتثبيت رواياتهم! أي أننا محكومون بالتاريخ رغم تمسكّنا بمن نوالي أو نحب. فنحن محكومون بالسلوك، أعني مرغمين على أثبات صدق ادعاءاتنا بالسلوك؛ فالشيعة - على المستوى الاجتماعي والسياسي- مطلوب منهم أن يثبتوا محبتهم لمن يوالون، والسنة عليهم أن يبرهنوا قوّة تمسكهم بالخلفاء، لكي نصدّق، على الأقل، إن هذا السجال العقيم الذي استمر أربعة عشر قرنًا يستحق كل هذه المغامرة! 

لم يجد الله مدخلًا إلى قلوب المذهبيين لكي يوحدهم على وتيرة أخلاقية واحدة، ولو كان الأمر عكس ذلك لاعتبر الطائفيون أن المذاهب ليست سوى مدارس واتجاهات تختلف فيما بينها علميًا ولا تحتاج كل هذا الألم. غير أنها ظلّت تضمر العداء وتتبادله على مر التاريخ.

 المذاهب تبكي من خشية الله وتتعبد بتعاليمه وتحبه، وتشتاق إلى القرب منه. لكنّها لم تستثمر هذا القرب فيما بينها لتضرب لنا مثالًا للتسامح والرحمة والشفقة. كل يرى الحقيقة على طريقته الخاصة، وهذا أمر حسن في حدوده الخاصة. لكن يبدو أن الأمر أبعد من كونه ركون اختلاف في وجهات النظر، فلو كان الأمر على هذا النحو لشهدنا تلاقح في الآراء وتبادل في الخبرات. لكن الموضوع أبعد من ذلك بكثير؛ فالذهن يميل إلى الانغماس في هوية ضيقة ويرى الأشياء من منظوره الخاص ليعلن بطلان الحقائق التي تقع خارج أسواره. يبقى ذلك السر المستتر: لماذا هنالك إجماع على الكراهية بين المذاهب، ويقابله بنفس الوقت خلاف عميق لم يستطيعوا السير على منهج أخلاقي واحد على الأقل. لا نرى من ذلك شيئًا سوى ادعاءات لا واقع لها.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

دائرة الجدل المغلق بين الإسلاميين وخصومهم (2ـ2)

عن وثنيتنا المعاصرة