23-يناير-2025
.

هناك أسئلة عديدة حول المنحة الحكومية للدراما في العراق خلال 2024 (فيسبوك)

يشهد العراق مرحلة مختلفة خلال فترة الحكومة الحالية، وربما يتفق المعارضون والموالون للحكومة على استثنائية هذه المرحلة، خصوصًا بالنظر للتحولات الإقليمية المحيطة، وقد قرأنا وسمعنا كثيرًا عن "الإنجازات الإيجابية" للحكومة، وسمعنا النقيض أيضًا ممن سموها "حكومة التسريبات" أو "حكومة تكميم الأفواه"، وبين هذين الحكمين على الفترة الحالية، اندفعت على المستوى الخاص وعلى مستوى الفريق المحيط بي للتركيز على القطاع الفني، وبالخصوص الفن المتداخل مع الصناعة، وأقصد هنا فن صناعة الدراما التلفزيونية والسينما.

لا تتوقف الأسئلة أبدًا تجاه فكرة المنح الحكومية للدراما والمسلسلات

ومن خلال هذا التركيز برز في رأسي هذا العنوان (المسلسلات في عام الإنجازات) وقد استوحيته من الشعار الذي أطلقته الحكومة على عام 2024، والذي شهد مجموعة من الإنجازات الحكومية على المستوى الخدمي والدبلوماسي، كما تقول هي، لكن السؤال هنا: ماذا حققت حكومة السيد السوداني من إنجاز في عالم صناعة الدراما التلفزيونية؟ حيث تعامل المشروع الحكومي مع هذا القطاع على اعتباره قطاع عاطل ويعاني من مشاكل متعددة اندفعت الحكومة لحلها، ونحن نعتقد أن قياس نسبة النجاح والفشل يجب أن يكون عبر مختصين ومطلعين في كل قطاع، إذ يمكن أن يكتب لنا مهندس مطلع على مشاريع فك الاختناقات المرورية أو مشاريع الزراعة أو الصناعة، ويشخص نسبة النجاح مع كشف أسباب التعثر أو الفشل، وتتمكن الحكومة من خلال هذه التشخيصات الأخذ بنظر الاعتبار كل المشاكل سواء كانت فنية أو إدارية من أجل معالجتها والقضاء عليها في مراحل الإنجاز التالية، سواء بحدود عمر الحكومة الحالية، أو تتجاوز الأفكار وتتراكم للحكومة القادمة كي لا تبدأ من الصفر كما تفعل كل حكومة جديدة.

ومن هذا الباب بدأت كشاب فاعل ومشارك في محاولات صناعة دراما عراقية جديدة، بتتبع مستوى النجاح والفشل في المسلسلات التي أنتجتها الحكومة العراقية، وتتصدر دائمًا شبكة الإعلام العراقي لتنفيذ المسلسلات الحكومية، حيث تتكفل إدارة قسم الدراما بالتخطيط للشكل والمضمون، ثم تتقدم للتعاون مع شركات منفذة من أجل إنتاج مجموعة من المسلسلات التي تقدمها الحكومة باعتبارها إنجاز (فني وصناعي) يهدف إلى إنعاش قطاع صناعة الدراما، أي أن المسلسل الواحد يعادل (جسرًا) أو (مصنعًا) أو (مزرعة) حكومية ستعود بالفائدة على العاملين بها وعلى المواطنين العراقيين.

وبالتأكيد نحن نفرق بين الأثر الذي يتركه مجمع سكني أو جسر، والأثر الذي يتركه مسلسل تلفزيوني، على اعتبار أن الشواخص المادية يمكن أن تؤثر بشكل مادي ومباشر على الحياة اليومية، أما المسلسل، فيمكن أن يترك أثرًا معنويًا وثقافيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا وسلوكيًا على المواطن الذي يصعد الجسر ويسكن في المجمع ويشتري من المزرعة ويعمل في المصنع، أو يستفاد من منتجاته.

أقول: ما الذي تركته مسلسلات الحكومة التي أنتجت في العام الماضي (2024) من أثر على المشاهدين العراقيين أو الفنانين العاملين بها؟ لقد أنتجت الحكومة 9 مسلسلات تنوعت مواضيعها بين الكوميديا والجدية والاجتماعية والأمنية، وهي مسلسل (ألو تكسي) ومسلسل (ناي) ومسلسل (كريستال) ومسلسل (أقوى من الحب) ومسلسل (انفصال) ومسلسل (مستر أمبير) ومسلسل (خيوط حرير) ومسلسل (ملاك). وقد تضاربت الأخبار عن التحضيرات للموسم وعدد الأعمال والنجوم المشاركين، حيث صرح المخرج وديع نادر، في حوار على جريدة الصباح الرسمية أجراه الصحفي (محمد إسماعيل) ونشر على الموقع الالكتروني للجريدة يوم 3 كانون الثاني/يناير 2024، ذكر فيه أن "عدد الأعمال سيكون (12 عملًا) وذكر أسماء عدد من المؤلفين والنجوم والمسلسلات التي لم تظهر أبدًا"، وبدلًا من 12 عملًا خرجت شبكة الأعمال بـ ٩ أعمال، لكن نود كمطلعين أن نتفحص أثرها على الصناع أو المشاهدين.

وسبب توجهنا لدراسة الدراما الحكومية لأننا نعتقد أنها الوحيدة التي يمكن أن نناقش أجنداتها وأسلوب إنتاجها ومستواها الفني، ولأنها تعبر عن المستوى الذي تريد الحكومة تحقيقه سواء للفنان أو المشاهد، وأن فشلها أو نجاحها سينعكس بالتأكيد على نمط الصناعة المحلية للدراما، أما إنتاج القطاع الخاص، فهو إنتاج حر على مستوى الشكل والمضمون وأسلوب الصناعة، لأن طريقة صناعته ونتائجه لا تمثل سوى منتجه، ولا يؤثر فشلها على الزملاء من المنتجين والفنانين، ولا يؤثر الهدر المالي أو الخسارة على خزينة الدولة التي تمثل خزينة الشعب، أما فشل أو نجاح الإنتاج الحكومي، فيجب فحصه وتشخيص عوامل فشله ونجاح انطلاقة من سياسة إنتاجه وصولاً إلى مدى تأثيره على الشارع.

وهنا نطرح السؤال الجوهري: لماذا تدعم الحكومات تطور الفن بشكل عام والدراما التلفزيونية بشكل خاص؟ الجواب الذي نسمعه من أغلب الفنانين، أن الحكومة تدعم "الفنان العاطل" وتوفر له فرصة عمل، كي لا يقتله الجوع، ولهذا السبب تطلق ميزانيات مليارية من خزينة الدولة، لكي يستفيد الفنان ويتسلم أجورًا تعينه على المعيشة، ما يؤدي إلى سؤال آخر: لماذا لم توزع المليارات على الفنانين كمنحة لتحسين المعيشة؟ باعتبار أن الصناعة الحقيقة للدراما والتأثير الفني على المجتمع ليست هي الغاية الأساسية من هذه المنحة. بل أن الكلف التقنية والإنتاجية لهذه الأعمال قد أكلت ثلاثة أرباع المبلغ الكلي، وتبقى الفتات كأجور للفانين، وهذا يعني أن فائدة المنحة ذهبت للشركات المنفذة ولم تذهب للفنانين كأجور تعينهم على العيش، وبذلك يتحقق الهدف للأساسي من المنحة، أما إذا كانت منحة دعم الدراما الهدف منها "تطوير" صناعة الفن في العراق وتحفيز هذه الصناعة للوصول لمرحلة الإنتاج الذاتي، فينعكس بشكل إيجابي من الناحية الاقتصادية على الحكومة والدولة والعاملين في هذا القطاع، وإذا كان الهدف من الإنتاج اجتماعي، كما تفعل معظم الدول التي تنظر للفن باعتباره قوة ناعمة يمكن أن تساهم بتطوير الشعوب ثقافيًا واجتماعيًا، ولو تبنت الحكومات المتعاقبة هذا الفهم لاستطاعت التأثير على الشعب، فمثلًا كان بالإمكان إنتاج فنون مؤثرة تزرع في رأس المواطنين فكرة الديمقراطية وتحثهم على المشاركة الفاعلة في الانتخابات، لكانت الانتخابات الأخيرة بمشاركة عالية من الشعب الذي يفهم أثرها ومدى تأثير صوته، وتستطيع الحكومة أيضًا محاربة المخدرات والجريمة والسلاح المنفلت والنظام المروري والترشيد واحترام القوانين، كل ذلك عبر تأثير القوى الناعمة التي لم تستخدمها الدولة العراقية في تاريخها الا للتعبئة في فترات الحروب أو للوعظ السطحي الأيديولوجي من أجل كسب نوع معين من الناس.

ومع كل ما ذكر أعلاه؛ لماذا سارت الأمور بهذه الطريقة، وماذا حققت منحة دعم الدراما في العام السابق، وهل يمكن أن تكون المسلسلات المذكورة هي نموذج من نماذج الإنجاز الحكومة، وإذا كانت نموذج، فمن أي ناحية، هل هو إنجاز فني؟ هل هو إنجاز اجتماعي؟ هل هو إنجاز ثقافي أم هو إنجاز اقتصادي؟ ولا تتوقف الأسئلة أبدًا تجاه فكرة المنح الحكومية للدراما، لكن يبقى هناك سؤال مفتوح عن الوجبة الثانية من المنحة في عامنا الحالي؛ هل ستستفيد من أخطاء ومشاكل الوجبة الماضية، هل تم تشخيصها ومناقشتها؟ أم أن القائمين على المنحة يعتبرون العام الماضي عام إنجاز ناجح كما صرحوا في مناسبات عديدة؟ وإذا كانت الوجبة الماضية ناجحة بنظرهم، فهل ستكون الوجبة الحالية بنفس النمط ونفس السياق؟ ما هي المعايير التي يتبعها القائمون على المنحة أو من كان له تأثير بالاستشارة والتعاون مثل الدكتور (عارف الساعدي) المستشار الثقافي لرئيس الوزراء، أو السيد (وديع نادر) المشرف على مديرية الدراما في شبكة الإعلام، والمشرف على تنفيذ خطة المنحة، وكذلك الدكتور (جبار جودي) نقيب الفنانين العراقيين، بالإضافة إلى لجنة المنحة التي تكوّنت فيما بعد بمشاركة الدكتور (حكمت البيضاني) والأستاذ (محمود أبو العباس)، باعتبار هذه المجموعة أشرفت وتناقشت وأثرت على سير عمل المنحة؛ ما هي المعايير التي سار عليها أساتذتنا من أجل دعم صناعة الدراما، وهل يصنفون وجبة عام 2024، وجبة ناجحة؟

هناك منح عديدة ومليارات كثيرة خرجت للدراما من خزينة الدولة وأهدرت في تجارب فاسدة ومفبركة تواطئ معها عدد من الفنانين المستفيدين أو الساكتين

أعتقد نحن بحاجة الآن لمكاشفة صريحة من قبلهم، لقد تتبعت آرائهم المعلنة في مناسبات عديدة وشعرت بأنهم فخورون بما قدم، وهذا الفخر أقلقني كثيرًا على مستقبل صناعة الدراما الحكومية، وذكرني بمنح عديدة ومليارات كثيرة خرجت من خزينة الدولة وأهدرت في تجارب فاسدة ومفبركة تواطئ معها عدد من الفنانين المستفيدين أو الساكتين، فمرت منحة بعد أخرى دون أي أثر يذكر، وهنا نعتقد أن المخططين لسياسة الإنتاج مطالبين بعرض مشروعهم أمام الحكومة وأمام النقابة، كي نفهم خطتهم بشكل واضح ونعرف منهم المعايير الأساسية لقياس مستوى الفشل والنجاح للمسلسلات في "عام الإنجازات" السابق والقادم.

ألم يكن من الأفضل استخدام هذه الأموال لتأسيس بنى تحتية للصناعة في كل محافظات البلاد، كان من الممكن أيضًا تأسيس أستوديو أو بيت للدراما في كل محافظة، يتم تزويده بكل الخبرات والمعدات اللازمة من أجل تطوير الشباب ودعم تجاربهم ومساعدتهم للوصول إلى إنجاز مشاريعهم، ثم مساعدتهم على توزيعها عن طريق الاستعانة بشركات توزيع؛ ألم يكن من الأفضل وضع هذه المبالغ في مصرف حكومي ثم استخدامه كقروض للمشاريع الفنية الصغيرة، إذ يمكن لكل صانع دراما أن يقدم مشروعه ليستحصل على قرض مناسب ثم يقوم باسترداد المبلغ بعد مساعدته على بيع منتجه، والسؤال الأخير هنا؛ هل وقع السيد رئيس الوزراء ومستشاريه والقائمين على إدارة المنح في فخ (العراق البغدادي) وهو نمط سائد منذ 70 عامًا، إذ يتصوّر صناع الفن بأن بغداد هي المكان الوحيد للصناعة الفنية، أما باقي المحافظات، فهي مجرد تجمعات سكانية يجب أن يغادرها فنانوها ومثقفوها وينتقلون للعيش في بغداد من أجل العمل في (شبكة الإعلام البغدادي). وأخيرًا؛ في حال فشل نتائج المنحة، هل سيخرج أساتذتنا في مؤتمر معلن لإخبارنا بأسباب الفشل، أم أنهم سيحتفلون في عيد الفطر بمنجزهم كما فعلوا في العام السابق بعد فضيحة درامية كبيرة؟