إلى جانب ما يواجهه الرجال من تحديات لدخول سوق العمل، تواجه النساء العراقيات تحديات ومحددات إضافية تعرقل دخولهن، حيث تأتي هذه المعرقلات على شكل عوامل على مستويين رئيسين يتعلقان بالمنظومة الاجتماعية وتأطيراتها لصورة المرأة في المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى بالعقبات القانونية المتعلقة بتهيئة وتمكين النساء من أخذ فرصهن في العمل.
تحد الثقافة الاجتماعية من قدرة النساء العراقيات على الانخراط في القطاع الخاص
وعلى الرغم من أن نسبة النساء في المجتمع العراقي تقارب 49 بالمئة من إجمالي السكان، إلا أن فرصهن في سوق العمل لازالت ضئيلة، إذ لا تتجاوز نسبة النساء العراقيات العاملات حدود 15 بالمئة من حوالي العشرين مليون امرأة عراقية، بينما تقع 85 بالمئة منهن ضحايا عوامل موضوعية تحجم دورهن في المجتمع عمومًا وسوق العمل تحديدًا.
وفي الجانب المقابل، فأن نسبة مشاركة النساء العراقيات في مؤسسات الدولة تمثل نصف العدد الكلي، بحسب ما رصدته إدارة التدريب في المركز الوطني لوزارة التخطيط، بحسب آخر إحصائية لها.
تحجيم دور النساء.. النظرة الاجتماعية والتعليم
بحسب منظمات نسوية، فأن انخفاض نسبة النساء العراقيات العاملات في القطاع الخاص يعزى إلى الثقافة الاجتماعية ومنظومتها القيمية المحافظة التي تحد من حرية المرأة بشكل عام، بينما يؤثر عامل انخفاض نسبة النساء المتعلمات على تراجع دور المرأة، حيث بلغت نسبة الإناث اللواتي يرتدن المدارس أقل من 50 بالمئة منهن بينما لا تتجاوز سوى 40 بالمئة من هذا العدد المرحلة الابتدائية.
ماسة الرمادي، كاتبة روائية وناشطة نسوية، تتحدث لـ"ألترا عراق"، عن هذه العوامل المقيدة لعمل المرأة العراقية، وتقول: "النظرة الاجتماعية السائدة في العراق تعيق زيادة مساحة المرأة في سوق العمل، فالقيم المحافظة للمجتمع العراقي تنظر للمرأة بنظرة دونية تُقزم من إمكانياتها وقدراتها على الفعل والتأثير وبالتالي جعل دورها هامشيًا جدًا في الفضاء الاجتماعي".
"هذه النظرة الدونية للنساء لا تقتصر على منعهن من العمل، بل تمتد لتحجيم دور المرأة العاملة أيضًا، حيث يراد للنساء أن يتقوقعن في مجالات عمل معينة كقطاعات الإدارة والتعليم والصحة، رغم أن نساءً كثيرات يتمتعن بخبرات كبيرة في مجالات يهيمن عليها الذكور، كالقطاع العسكري أو قطاع الهندسة المدنية على سبيل المثال"، بحسب حديث ماسة الرمادي.
وتضيف الناشطة عن واقع المرأة في العمل: "حتى مع التطور الحاصل على مستوى انتشار وسائل التواصل وانتشار المعرفة وتوظيف النساء لها لتطوير مهاراتهن، لكن هذه النظرة الدونية لا زالت تسعى لقولبة النساء في قالب معين لتهميشها".
يعد انخفاض نسبة النساء المتعلمات أحد أهم أسباب تراجع دور المرأة في سوق العمل والقطاع الخاص
وبحسب دراسة قدمها الجهاز المركزي للإحصاء، فأن 20 بالمئة من النساء العراقيات قد تعرضن للتعنيف الأسري، بينما تحصي المفوضية العليا لحقوق الإنسان حوالي خمسة آلاف حالة تعنيف للنساء في العام الماضي، وهو ما يعتبره متخصصون سببًا رئيسًا يضاف إلى جملة عوامل أخرى تعرقل تمكين النساء ودخولهن سوق العمل في العراق.
أما عن مسؤولية الأسرة في عدم تمكين النساء، تقول ماسة الرمادي: "أجريت استبيانًا على حسابي الشخصي شاركت فيه آلاف من النساء وطرحت سؤالًا حول المرحلة الدراسية التي وصلن إليها، وكانت النتائج صادمة حيث تجاوزت نسبة النساء الممنوعات من إكمال الدراسة 50 بالمئة".
وتضيف ماسة خلال حديثها لـ"ألترا عراق"، إشارة إلى أنه "في استبيان آخر بلغت نسبة الخريجات اللواتي منعن من العمل حوالي 40 بالمئة".
ابتزاز واستغلال وتمييز ضد النساء
ليست العوامل المتعلقة بطبيعة نظرة المجتمع للنساء وحدها من تؤثر على انخفاض نسبة العاملات في القطاع الخاص، ففضلًا عن عوامل أخرى كتدني نسبة المتعلمات والخريجات، ثمة عوامل إضافية تتعلق ببيئة العمل في القطاع الخاص نفسه والتي يمكن توصيفها بعوامل "طاردة" بحسب عاملات في القطاع الخاص.
سارة أحمد، إحدى النساء العاملات في شركة ضمن القطاع الخاص، تؤشر جملة تحديات تواجهها النساء في بيئات العمل، وترى أن "أكبر المشاكل التي تواجهنا هي الابتزاز الجنسي من قبل أرباب العمل والمساومة على إقامة علاقات معهم مقابل التوظيف أو الترقيات الوظيفية".
تؤشر نساء وجود حالات تمييز بين الجنسين على مستوى أجور العمل في القطاع الخاص
تقول سارة أحمد في حديثها لـ"ألترا عراق": "يطلب منّا أحيانًا العمل بطريقة غير لائقة لكسب الزبائن، وكموظفة علاقات عامة تسببت لي مثل هذه الطلبات بمشاكل كبيرة اضطرتني لترك العمل لأن أرباب العمل يطلبون أن نعامل الزبائن بطريقة مبتذلة وبلينٍ مبالغ به".
وفي ظل عدم وجود تشريعات حازمة ضد ظاهرة التحرش، تتعرض واحدة من كل ثلاث نساء عراقيات إلى التحرش اللفظي، بينما تتعرض واحدة من كل خمس نساء الى تحرش جسدي، بحسب تقرير للبنك الدولي.
عوامل طاردة أخرى
أما عن العوامل " الطاردة" الأخرى، تشخص سارة عاملين آخرين، وتقول: "هناك تمييز كبير بين الجنسين على مستوى الأجور، أحد الموظفين العاملين معي في القسم يتقاضى حوالي 150 بالمئة مما أتقاضاه على أداء ذات الأعمال".
وتواصل سارة حديثها لـ"ألترا عراق" عن العامل الآخر: "ليس على مستوى الأجور فحسب، بل يصل التمييز ضد النساء بالنسبة لساعات العمل أيضًا، حيث نُجبر أحيانًا على البقاء لعدة ساعات في العمل على خلاف الموظفين الذين يعملون لعدد ساعات معروف ومحدد".
وتشكل نسبة النساء العراقيات العاملات في القطاع الخاص،حوالي 29 بالمئة من المجموع الكلي للعاملين في القطاع، بحسب ورقة بحثية لمركز النهرين للدراسات والأبحاث الاستراتيجية.
تقول ناشطات إن الدولة لا تعير اهتمامًا بتمكين المرأة بل أنها تتماهى مع قولبة المجتمع لدور المرأة في جوانب محددة
ووفق بيانات وزارة التخطيط العراقية، فإنّ 7% من النساء المستعدات للعمل ينجحن في الحصول على عمل فعلًا.
أين دور الدولة؟
في الفترة المحصورة بين عامي 1925 و1999، صادق العراق على سبعة اتفاقيات لمنظمة العمل الدولية والتي تضمن حق النساء بالعمل، إضافة إلى المصادقة على الاتفاقية الملحقة بلائحة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حول إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة.
ومع كل هذا السجل الطويل من المعاهدات والاتفاقيات الدولية الملزمة التي دخل فيها العراق منذ تأسيس الدولة الحديثة، إلا أن دور الدولة لازال هامشيًا جدًا في حفظ حق النساء بالعمل وتمكينهن من ذلك، فضلًا عن حماية العاملات من أشكال التمييز والاستغلال، بحسب ناشطات نسويات.
في حديثها لـ"ألترا عراق"، ذكرت الناشطة النسوية ماسة الرمادي أن "الدولة غير مهتمة على الإطلاق بفكرة تمكين المرأة، فمؤسسات الدولة متخلية تمامًا عن أي دور اتجاه النساء من قبيل تنويع الفرص أو الخيارات أمامهن، بل هي متماهية مع النظرة الاجتماعية التي تسعى لقولبة دور المرأة في جوانب محدودة جدًا".
وتواصل ماسة حديثها: "الدولة لا تقوم بأي دور لتأمين وضع النساء في بيئات العمل وتتركهن عرضة لمختلف أشكال الاستغلال وهذا ما يخلق عامل خوف لدى العائلات اتجاه الوضع الذي ستعمل فيه بناتهن وبالتالي منعهن من مواصلة العمل".
تفضل بعض النساء البطالة على بيئة العمل السيئة والاستغلال والابتزاز
ويعاني القطاع الخاص في العراق من فوضى كبيرة نتيجة عدم اعتماد الدولة بشكل أساس على القطاع العام، فبحسب دراسة ميدانية لمركز النهرين للدراسات، فأن 20 بالمئة من شركات القطاع الخاص تقع خارج سيطرة الدولة.
"لا توفر المؤسسات المعنية أي أرقام ساخنة للنساء العاملات لمعالجة قضايا الاستغلال والابتزاز من قبل أرباب العمل إضافة إلى ضعف الرقابة على الشركات" تقول ماسة الرمادي، وتضيف أن "بيئة عمل سيئة وغير مراقبة وغير مقيدة بتشريعات رادعة قد تدفع النساء إلى تفضيل الجلوس في البيت على مقاساة مثل هذه الظروف".
ويسجل العراق رقمًا قياسيًا في غياب المساواة بين الرجل والمرأة، ويأتي في ثاني أدنى مرتبة بنسبة العمالة النسائية من بين 130 دولة.