17-فبراير-2019

رئيسان للوزراء مع زعماء أحزاب في النظام العراقي (google)

لم يترك الأوروبيون قراصنة ونهّابون على الطريقة القديمة، بل طوروا أساليب النهب بشكلٍ متقن، وكانت التطوّرات الاقتصادية والعلمية والسياسية هي القوى الجوهرية التي تحدّد شكل المهيمن ومدى نفوذه. حيث أن القوى الأوروبية من هذه الناحية ليسوا لصوصًا محليين، بل لصوص خارجيين راكموا ثرواتهم  المحلية بنهب الشعوب الأخرى، ولم يخطر في بالهم أن يتحولوا إلى "ضباع" محليين يقوضون بنيانهم الداخلي، فكانت عيونهم على الدولة ومؤسساتها.

التطوّرات الاقتصادية والعلمية والسياسية هي القوى الجوهرية التي تحدّد شكل المهيمن ومدى نفوذه

وبحسب المؤرخ الأميركي "بول كيندي"، أن سبب انهيار القوى العظمى، مثل إسبانيا وبريطانيا العظمى، وتراجعها عن ساحة النفوذ العالمية، هو عجزها الاقتصادي الذي حكمته هذه المعادلة: توسّع امبريالي وعجز اقتصادي لا يسد رغباتها التوسعية، فتتراجع عن مسرح الأحداث وتعطي الراية لقوة توسعية أخرى. ثم تتراجع القوة الآفلة إلى الخلف مستفيدة من تراكم الخبرات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية.

اقرأ/ي أيضًا: الإمبريالية وسوق العالم.. الوحش الذي "يداعبنا"

 تشتبك هذه القوى الأربع  لتشكل بنية صلبة لبناء الدولة. بإيجاز: كانت قوة مهيمنة اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا وثقافيًا، ففرضت هيمنتها على العالم وأعادت تشكيله طبقًا لمصالحها. ومن المؤكد، أن المهيمن لا ينطبق عليه هذا المفهوم مالم يمتلك شروط الهيمنة التي مر ذكرها، وبخلافه ستكون هيمنة طارئة ووقتية، خصوصًا إذا كانت مرهونة بقوة أكثر نفوذًا منها.

إن القوى الطائفية والقبلية وجيوشها الجاهزة مهيمنة على المسرح العراقي، وبحسب التعبير الماركسي، وبشيء من التسامح في المفهوم، فهي "الطبقة المهيمنة"، إلّا أنها ليست مهيمنة بالمعنى الاقتصادي للكلمة؛ إنها هيمنة منقوصة ومجردة عن عوامل قوتها، ولا تساهم في عملية الإنتاج، ولا تمتلك ناصية الاقتصاد، فتبقى رهانات هيمنتها قلقة وغير مستقرة. بمعنى آخر، إنها تفتقر لعوامل الهيمنة الحقيقية. ومعلوم لكل بقّال وخبّاز وحرفي وفنان ولص: حينما تؤمّن مستقبلك وتروّج لبضاعتك لا بدّ أن تغلفها بغلاف متين يحميها من الانكسار والمنافسين الجدد. فهذا، على سبيل المثال، ما فعلته البرجوازية في الغرب، فقد تحصّنت ببناء الدولة، فأن لم تكن الدولة النتيجة المنطقية والتاريخية لصناعة المهيمن الذي يفرض شروطه فمن يكون غيره؟.

لا يمكن على الإطلاق لهذه القوى الطائفية أن تعمّق من هيمنتها عبر النهب والسلب الداخلي، بمعنى آخر، إن صناعة القوة وفرض الهيمنة تعتمد بالأساس على توفير الشروط اللازمة، وهذه الأخيرة لا تتوفر من خلال نهب ثروات البلد، ولم نسمع أن مهيمنًا وسّع من نفوذه وشروط قوته من خلال النهب المحلي!، بل العكس هو الصحيح تمامًا؛ فالمهيمن يسعى لمراكمة الثروة عبر التحكم بثروات الغير ليعزّز قوته التوسعية. وبالطبع لا نريد من جماعة الخضراء أن يتحولوا إلى لصوص دوليين ولا محليين بالتأكيد، فضلًا عن عجزهم المطلق عن ذلك الأمر، بل نحلم بنخبة سياسية يكون البناء همها الأقصى. 

 من خلال هذا التحليل البسيط يمكن القول، إن أي نخبة سياسية تسعى لسرقة ثروات البلد، فهي أما مأمورة بذلك بحكم التبعية التي تعاني منها، أو لديها تصفية حساب طويلة في البلد التي تسيطر عليه، والنتيجة واحدة، ترك البلد يحتضر بسبب ديونه وثرواته المنهوبة وعذاباته المزمنة ومغادرته في أي لحظة، ليبقى مأسورًا في دائرة كابوسية مرعبة.

اقرأ/ي أيضًا: السياسة العراقية.. الأرنب والغزال

ما نشاهده من فظاعات تجري في العراق يعطينا مؤشرات وشكوك من أن القوم عازمون على محاربة فكرة الدولة بتعمّد غريب، ويندر أن نسمع أحد منهم يتفوه بفكرة الدولة. ربما لأن بناء الدولة يشعرهم بالخطر الوشيك والقضاء على أحلامهم. العلاقة الطردية التي يفهمها ساسة العراق هي كالتالي: إن بناء مؤسسات فاعلة واقتصاد متين ونظام ديمقراطي وبناء مجتمع مواطني، فهذا يعني نذير شؤم لهم، ذلك لأنه سيحكم على رحيلهم. وإلا بماذا نفسّر إصرارهم وتعمّدهم وتغافلهم عن هذه المقدمات؟.

 أجازف بالقول، إن هذه المقدمة أعلاه بديهية وسلسلة ولا تحتاج بحثًا تاريخيًا معمّقًا لفهمها. لكنها تغيب عن الجماعة!؛ فهم واثقون جدًا من بقائهم، ولهذه الثقة ما يبرّرها، ومنها أنهم محميون بواسطة المهيمن الخارجي، فبالتالي، ليذهب البلد وتاريخه وحضارته ومؤسساته إلى أسفل درك من الجحيم. لكن ألم يكن المستبدون واثقين من أنفسهم؟!.

لم يكن بحسبان صدام حسين والقذافي ومبارك هذه النهايات التعيسة والمذلّة.. السيل حينما يأتي تنجرف معه كل الأحلام وتتلاشى الجيوش

  التراكمات حينما تحدث فهي تحدث بطريقة فوق تصوراتنا، وكذلك حينما يحدث الانهيار فأنه يحدث بطريقة فوق تصوراتنا. بمعنى أن قانون التراكم والانهيار ماكر للغاية، ولا تصدّه ميليشيا ولا "هوسة" عشائرية، وتتهاوى أمامه كل النزعات الطائفية، إنه يتسلل بهدوء ويوحي أن كل شيء على ما يرام. لم يكن بحسبان صدام حسين ومعمر القذافي وحسني مبارك بهذه النهايات التعيسة والمذلّة، لم تستطع كل جيوشهم الجرّارة أن تغيّر شيء من الانهيار الذي حصل. حينما يأتي السيل ستنجرف معه كل الأحلام، أمّا إذا كانت المعادلة في ضميركم بهذه الصيغة: لا تهمنا الدولة يكفي أن ندّخر " تحويشة العمر" ونغادر بعدها، فبدوري أقول: كان غيرك أشطر!.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سوق "المحاصصة الأمريكية" في بلادنا

الدولة "المفتعلة".. سيرك إقطاع العراق السياسي