18-أكتوبر-2017

مؤيد محسن/ العراق

رغم أن هذا البيت واسع بعض الشيء، كانت القوانين التي تسري فيه ضيقة، أوامر جدي الصارمة وتحريمه لكل شيء نحاول ممارسته قد لا توجد حتى في أكثر طوائف الأديان المتشددة، كان يمارس التسلط علينا بسادية مُرعبة، حتى جعلني أعاني من شلل الأطفال النفسي؛ كان جسمي سليمًا لكنه جعل أرواحنا مُعاقة في هذا المنزل، فالشلل الذي يجعل عفوية طفولتك مُقعدة أشد عوقًا من ذلك الذي يجعل أقدامك ملتوية، عقاب الانحراف عن استقامة جدي هو قطع عضو من أعضاء الجسم، نعم فأخي نوري الأكبر، في كفِه الأيمن فقط أربع أصابع؛ الخامس قطعه جدي عندما صحا من النوم قبل سنين بسبب نوري، كان أخي ساعتها يلعب "الغُميضان"* فأحدث ضجيجًا وعليه أن ينال عقابه.

لم يكن أمامنا مكان نأخذ فيه حرية الانفلات غير بستان أبو صالح ومسافة الطريق من وإلى المدرسة، أقضي ساعة في البستان عندما يخرج جدي لمعرفة أخبار أهل القرية، وساعتين في طريق المدرسة التي تقع في المدينة، ففي هذه الساعات القصيرة جدًا أفرشُ مرح الطفولة الطويل والكبت المتراكم من خِناق جدي، ولأن المدرسة تقع في مركز المدينة وبيتنا في قرية بعيدة عنها؛ كنت أمشي في اليوم ساعتين منفصلتين، ساعة عند الذهاب إليها والساعة الأخرى عند الرجوع للمنزل، نحن فقط ثلاثة أطفال تم تسجيلنا في المدرسة، فأغلب أطفال القرية لا يعرفون شيئًا اسمه مدرسة، لذلك كان أغلب التلاميذ في هذه المدرسة هم من المدينة وعوائل الأغنياء، أما الذين كانوا معي في الصف فهم أبناء أطباء ومهندسين ومدراء كبار في دوائر الدولة، لا يعانون من أي نقص أو يُتعبهم شيء كما نحن، المدرسة بجوار بيوتهم، وهذا لا يكلفهم مشي غير دقيقتين أو خمس دقائق على الأكثر.

كنت أشطر التلاميذ في الإملاء والقراءة من غير أن أبذل أي جهد، بالرغم من شدة كرهي لهذا الدرس؛ عندما كان عمري ثلاث سنوات، كانت أمي في كل ليلة قبل النوم تعلمني حرفًا من حروف اللغة العربية، وإذا حفظت الحرف في صباح اليوم التالي وكتبته بصورة صحيحة تعطيني درهمًا، هي ليست لديها نقود، كانت تسرق الدرهم من خزانة أبي الخشبية عندما ينام، وهكذا أصبحت أقرأ وأكتب كل شيء قبل أن أدخل عامي الرابع.

في السنة الأولى في المدرسة، كان زميلي ماجد طفلًا جميلًا جدًا، مهذبًا ومتزنًا، بل كأنه معلم وقور وليس تلميذ في الصف الأول لسلوكِه المفرط بالاتزان في الصف، أبيض الوجه، أحمر الشِفاه، عيناه خضراويتان، بنطلونه الأزرق وقميصه الأبيض مكويان بمهارة تُدهش الناظرين، تلتصق في منتصف ربطة عُنقِه السوداء قطعةً ذهبية تلمع من بعيد، كان والد ماجد مدير مستشفى المدينة العام، أما أمه فكانت مشرفة تربوية معروفة في شاشات التلفاز، يسكنون في الفيلا التي تطل على المدرسة من الجانب الأيمن، حديقتهم أكبر من منزلنا بعشرين ضعف، من أهم صفات ماجد كان لا يمكن صيده بشِباك الاستفزاز؛ فكلما صدر مني شيء مزعج يُقابلني بابتسامة.

الكبت النفسي الذي في داخلي بسبب قوانين أسرتي الصارمة جعل مني طفلًا متوترًا دائمًا، وفِي أكثر الأوقات التي أكون فيها خارج البيت أُمارس فوضويتي بكل ما أوتيت من قوة، أما زميلي ماجد فهو طفل هادئ جدًا، مجد في القراءة وتحضير الدروس إلى أبعد الحدود، لكنه كان قلقًا من شيء واحد فقط؛ هو أن أقفز على مكانته في درس القراءة، يخشى دائمًا مني في درس اللغة العربية ويخاف أن أحصل على المرتبة الأولى، كنت أرى في عينه هذا القلق إلى درجة أنه قد ينتحر إذا حصل هذا الشيء، نعم كل ما أعرفه عن ماجد هو أن لا يسبقه أحد أو يكون أفضل منه في المدرسة.

تختلف الحياة التي يتنعم بها ماجد عن الحياة التي أعيشها تحت سلطة جدي في القرية بالرغم من الانتماء إلى مدينة واحدة، فهو بالتأكيد لا يعلم من أي واقع اجتماعيًا أتيت وقد يظنني جارهم في شارعٍ آخر. كنت أستطيع أن أكون التلميذ الأول في درس القراءة ومن غير أي جهد، لكنني لم أفعلها؛ كنت أقول ما فائدة أن أصبح الأول أو الثاني على طلبة الصف، فما دام حصولي على هَذِه المرتبة لا يعني شيئًا مهمًا في حياتي من جهة ويُعكر مزاج زميلي ماجد ويؤدي به للشعور بالنقص والاكتئاب من جهة أخرى، فلأفسح له المجال وأراه مبتسمًا أفضل، عندما سيحصل ماجد على المرتبة الأولى سيكون شيء مهمًا في حياته؛ يحصل على إثرها هدايا تُقدر بعملة أجنبية تُسمى الدولارات كما سمعتها منه من قبل، ويعملون له حفلة كبيرة في مسرح المدينة الوطني، وكأن حتى الوطن صار عنصريًا في احتضانه، أما أنا ولا أعوذ من كلمة أنا كما تعلمتها من أمي، لو حصلت على مرتبة الأول على مدارس البلاد كلها فلا يذكرني أحد ولا يتشرف أي أحد من كبار هذه المدينة بمعانقتي أصلًا، قد يكون صحن الباقلاء والحمص المسلوق هو كل ما يستطيع أن يقدمه لي أبي من عربة الحاج قفطان، في حين زميلي ماجد ستأتي إليه حتى صحف الوزارات والفضائيات ليباركوه على ذلك.

معاشرة طبقات الناس المختلفة في هذا العمر المبكر ورؤية الفوارق تجعل الحياة هي من تربّيك للقادم، في الوقت الذي يمارس الأهل تربية أقراني في العمر، ماجد لم يسخر من بساطتي أبدًا رغم فوضوية سلوكي، وفِي المقابل لم تحضر في دماغي أي أمنية تدعوني لأكون مثله مهذبًا، أو أطلب من الله أن يجعلني أعيش مثل حياته، كنت مقتنعًا بفوضويتي وبساطتي السخيفة نوعًا ما، قناعة الانصهار في الذات، التي تُزهر أرواحنا وتخلصنا من العوق الاجتماعي ولا تمتص قابليات النفس البشرية، لا تلك القناعة التي يُثرثر بها كهنة الاستحمار ومخدري العقول والمحتوى الخاطئ الذي يروّج له وعاظ السلاطين من أجل أربابهم في الدولة لسرقة وجودنا، تحت قبعة هذا المصطلح بأسلوب ترغيبي ميتافيزيقي اعتاد عليه الكهنة في تخدير المجتمعات وتنويمها على فراش البؤس، الأولى تُحيي الإنسان وأما الثانية فهي بمثابة عقاقير تُصير من الإنسان حيوانًا كالفأر.

لم أندهش من سلوك ماجد أو أجعله يشعر بجمود طفولته طوال فترة زمالتنا، في المقابل هو لم يُظهر لي الانزعاج من انفلاتي الذي لا يُطيقه أحد.

اليوم وبعد ثلاثين عامًا نلتقي أنا وزميل الطفولة ماجد، لكن ليس كزميلي دراسة، ماجد اليوم هو قاضي محكمة المدينة وأنا أجلس أمامه متهمًا، تهمتي أنني أخبرت أحد أغنياء سوق المجوهرات: ان هنالك لصوصًا يتابعونك ليسرقوا أموالك، فراح أخبر الشرطة فورًا ليلقوا القبض عليّ! طلبوا مني في غرفة التحقيق أن أعترف عن أسماء اللصوص وسكناهم، لكني أخبرتهم أنني لا أعرف شيئًا عنهم، فقط سمعتهم ذات يوم ورأيت حركاتهم التي تؤكد ذلك، ولا يحق لكم القصاص من أحد من غير أن يمارس جرمًا، فهم لم يسرقوا، كل ما في الأمر هو أن يحذر الحاج كامل في الحفاظ على ممتلكاته بصورة جيدة.

ولأن الحاج كامل كان من ذوي الجاه والعلاقات مع الأحزاب السياسية في الحكومة؛ تلاعب بالكلام الذي أخبرته به وكأنني أحد أفراد العصابة وعمل كل الأدلة التي تُقنع القاضي بأنني لص، ترف الحاج كامل جعله ينسى أنه إنسان ولديه ضمير لينتبه أنني لست حيوانًا أو نَفَرًا زائدًا في العالم.

هَذِه هي الصدفة العمياء، أجلس أمام زميل الطفولة الذي اصطنع أمام المدعي العام أنه لا يعرفني، وبعد أن حكم عليّ بالسجن لمدة عامٍ وستة أشهر، قبض ذراعي بقوة وقال: أيها الولد المُتخم بنبوة الإيثار دومًا، أما آن لك أن تكون وحشًا مُحترمًا؟ هل رأيت عفويتك إلى أين تتجه بك؟ ها... إنها حماقة أتقزز منها، أنظر إليك كشخص أحمق منذ تلك اللحظة التي أتحت لي فيها فرصة التفوق عليك في درس اللغة العربية وكان بمقدورك أن تكون الأول على الجميع، أحمق، أنت أحمق ولن تعِي هَذِه الحياة في عالم اليوم حتى تكون وحشًا، أعرف أنك بريء بنفس القدر الذي أعرف به أنك أحمق وغبي، والحكم الذي أصدرته عليك هو النصيحة الأخيرة لك من هذا العالم أن تكون وحشًا... ضحكتُ من قاع حنجرتي، لدرجة أن هذا القاضي العظيم الذي مسك ذراعي بقوة أصبح يرتجف، اصفرّ وجهه وهرب من الخلف مستحقرًا نفسه، نظرت بوجه الشرطي الذي يمسك يديَ المقيدتيّن بحلقة حديدية، نظرت إلى الأسفل، لا زلت تنتصرِ من خلفِ الزمن يا صاحب تلك الكلمة التي قرأتها على جدار مقهى عتيق، ولا زلت أنا ذلك الفوضوي الأحمق، كنت أكره المقهى بسبب هَذِه الكلمة "أن المرء يحتاج لبعض الوقت ليتعلم أن المحكمة آخر مكان يتوقع أن يجد العدالة فيه"* وأنا ثلاثين عاماً بقيت على حماقتي.

- أيها الشرطي هل تعرف جدي؟

- لا.

- لا تحزن يا سيدي ستعرفه.

- كيف.

- من اليوم سأكون وحشًا مثل جدي.

- هيا تحرك إلى زنزانتك قبل أن تتوحش عليّ.

بصقت بوجه الشرطي الذي لا ذنب له. هي نقطة البداية فقط، لضحكة الحياة.

 

  • الغميضان: لعبة شعبية
  • مقولة لــ أليس كولر

 

اقرأ/ي أيضًا:

ظل لا يغادر الجدار

كعشٍّ في مدخنةٍ شتويّة