20-أغسطس-2020

فيسبوك وكورونا يأخذان بأيدينا إلى عالم جديد نظيف (Getty)

منذ انتشار فيروس كورونا لم نعد نلتقي بأناسٍ كثر، تخففنا من مجابهة الناس وجهًا لوجه. وإذا استمرّت الحال كما هي الآن أو تفاقمت، كما يتوقع مختصون، فإنّ لقاء إنسان بآخر سيغدو أمرًا خطيرًا ونادرًا لا بدّ من الاستعداد له مليًّا.

ما أن يحضر أحدٌ أمام أحدٍ حتى يحدث ما يشبه المعجزة، ففي المسافة ما بينهما أرضٌ مهيأة للبناء، يشتغلان عليها بما يضمره أحدهما للآخر

هذا خبر سعيد لمواقع التواصل الاجتماعي وساكنيها، لكنه خبرٌ جدّ حزين لوجه الإنسان الذي لم يعدْ يعرف إلى أين يتوجّه، ولعينيه اللتين لن تنطبع فيهما بعد الآن صورة إنسان.

اقرأ/ي أيضًا: هل كان هيدغر "ضدّ" هيغل؟

ما أن يحضر أحدٌ أمام أحدٍ حتى يحدث ما يشبه المعجزة، ففي المسافة ما بينهما أرضٌ مهيأة للبناء، يشتغلان عليها بما يضمره أحدهما للآخر، حبًا أو كرهًا أو شوقًا أو تنافرًا، يملآن الفراغ الفاصل بينهما بما يوصلهما لبعض. وإذ تلتقي عينٌ بعينٍ تُخلَق شَفَقة وعطفٌ ورقّة مهما كانت علائم الاحتراب والعداء بينهما، حتى لو كانا يتحاربان، حتى لو قتل أحدهما الآخر فإنّ في رؤية عين القاتل لعينَيْ القتيل نحوٌ من عقوبة عادلة: أنّ شعورًا بالذنب سيشتغل في أقصى طاقته لأنّ القاتل رأى، ولو لم يرَ لكانت العدالة ناقصة.

ألا ترى كيف يَقتل الإنسانُ أخاه عن بُعدٍ بدم بارد؟ في الحروب الجديدة حيث لا لقاء مع الضحايا، يكثر الضحايا ويقلّ الشعور بالإثم في نفس القاتل، لأن المجرم لم يفعل شيئًا سوى أنه كبس على زرّ في لوح ما، وعاد ليكمل شرب قهوته. وقيل له في ما بعد، أو رأى في الأخبار مع عائلته أن صاروخًا انطلق، عَبَر المحيطات وهبط على مدينة نائمة فأيقظها بعنفٍ وساق أهلها إلى الموت.

هذا قتلٌ لم يشهده القاتلُ. قتلٌ تامّ النظافة. وبعدُ فإنّ الخبر في التلفزيون لا يصلح شاهدًا على الجريمة، بل لم تحدث جريمة أصلًا لأنّ العينين لم تلتقِ بالعينين، ولم ترتعش قسمات وجه القتيل أمامه، ولم يرَ آخر نَفَس يحلّ بعده السكون، ولم يشهد آخر ارتعاشة ليد القتيل، لم نكن شهودًا على معجزتنا الصغيرة هذه: أن نحوّل إنسانًا إلى جثة!

أجدادنا الذين قاتلوا بالسيوف، الذين قطعوا الرؤوس، وبقروا البطون، ورموا رماحهم بقوّةٍ ورشاقةٍ لتخترق أكباد خصومهم، عادوا إلى بيوتهم مكروبين، شاهدوا عيونًا تستغيث بصمت، وأنفاسًا تتقطّع بيأس، عادوا إلى أهاليهم يحملون جثث ضحاياهم في أعماقهم، يحملون آخر نظرة، آخر حشرجة، وقضوا باقي أعمارهم يشربون الدم في الماء الذي يشربون، ويأكلون لحم قتلاهم في قصاع الثريد، ملأوا لياليهم بالكوابيس، وفي ذلك نحوٌ من العقوبة، عقوبة من رأى.

لكنّ القتلة الجدد لا يرون ذلك كلّه. يرون أصابعهم وهي تضغط على الزرّ، ويرون بعدها الأخبار. قتل نظيف بلا زوائد من تأنيب ضمير أو شعور بالشفقة.

في وسائل التواصل "في فيسبوك مثلًا" يحدث شيء مطابق لهذا تمامًا. يشتم فلان فلانًا، أو يسخر منه أو يحرّض عليه أو يخوّنه أو ينال من شرفه، أو يتهمه بما ليس فيه أو يدعو لقتله أو يحطّ من شأنه، من دون أن تكون بينه وبين ضحيته تلك المسافة التي تتسع للشفقة والحياء والعطف حتى على عدوٍّ لدود.

فيسبوك وكورونا يأخذان بأيدينا إلى عالم جديد نظيف أنيق خالٍ من شفقة القتلة القدامى وكوابيسهم المزعجة

لو أن عينًا التقتْ بعينٍ أو تقابل وجهان، لحكم الشاتمُ على نفسه بأن يظلّ وجه المشتوم مطبوعًا في وجدانه، يحمله كعلامة انحطاط. لكنّ وسائل التواصل الحديثة، كالأسلحة الحديثة تمامًا، مكّنت الإنسان من أن يتحرّر من هذا العبء.

اقرأ/ي أيضًا: حين يخلفُ الإنسانُ موعده مع ذاته

وهذه هي البشرى السارّة: في الحرب الجديدة وفي التواصل الاجتماعي الجديد تخلّص الإنسان أخيرًا من شفقته. لأنّ مسافة التباعد أصبحتْ كبيرة بحيث لا يقدر أن يملأها إلا صاروخ عابر للقارات وإصبع يضغط على زرّ أحمر، أو كتابة ضوئية عابرة للحدود يوقّعها إصبع يضغط على كيبورد.

وهكذا كلما ابتعد إنسان عن إنسان صارتْ في أيديهما معًا ذريعة كبرى لقتل ذريع.

فيسبوك وكورونا يأخذان بأيدينا إلى عالم جديد نظيف أنيق خالٍ من شفقة القتلة القدامى وكوابيسهم المزعجة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

لا أحد يعرف أحدًا

هيدغر والشعر