25-مارس-2020

حكومة التكنوقراط الخاضعة لتوافق جزئي ضئيل، غير قابلة للتمرير من الأساس (فيسبوك)

ليس بالتوافق وحده يحيا النظام الديمقراطي، فقد أثبتت التجربة العراقية أن الصراعات الحزبية التي تأخذ بُعدًا طائفيًا في شكلها، ومصلحيًا ضيقًا في مضمونها، تُفضي إلى توافق "مهلهل" ينتج حكومات عرجاء غير قادرة ـ بفعل الإرهاق المتمثل بالضغط الحزبي ـ على إدارة دفة الدولة بشكلٍ سليم وسلس.

يَخلق التوافق الشامل على حكومة ما، حالةً من "الترهل" في أجهزة الدولة التنفيذية كما التشريعية

تشكو الطبقة السياسية في كل دورة انتخابية من صعوبات في إيجاد التوافق الحزبي تعرقل تشكيل الحكومة، وزاد الأمر تعقيدًا بعد انتفاضة تشرين واستقالة عادل عبد المهدي واعتذار المكلف محمد توفيق علاوي عن المَهمة. وفي ذات الوقت، تصر هذه الطبقة على "وجوب" التوافق الشامل، وصعوبة تشكيل حكومة دون إيجاده، وتلك مفارقة، أن تطرح الأحزاب السياسية فرضيتين في الآن الواحد: صعوبة إيجاد توافق تام، وصعوبة المضي دونه!

اقرأ/ي أيضًا: في انتظار السياسة

ستكون مفارقة إن قرأناها من منظور الجدلية الخاصة بتلك الأحزاب، وستكون عنوانًا للانسداد والفشل الذي يعاني منه النظام، إن قرأناها بصورة مجرّدة من زاوية أعم.

لو تجاوزنا الوقوف عند ذلك الانسداد لأسباب عملية، وخضنا في إمكانية تغيير المعادلة التي تصر عليها الأحزاب، بإرادة إصلاحية مدعومة من الانتفاضة الشعبية، فنستطيع القول إن تشكيل حكومة من أغلبية نيابية أسهل من الركون إلى سبات الكتل السياسية بانتظار التوافق على شكل التحاصص في الحكومة. وهو ممكن وفق النظام البرلماني، وغير ممكن وفق أعراف النظام الذي بدأت أحزابه بالدفاع عنها علنًا.

يَخلق التوافق الشامل على حكومة ما، حالةً من "الترهل" في أجهزة الدولة التنفيذية كما التشريعية، يؤدي إلى "فشل وظيفي" في أدوار الحكومة، يظهر للعيان عبر مجالات الاقتصاد والخدمات والوظائف، فضلًا عن الأمن والسيادة والقانون والعلاقات الخارجية، كما علمتنا التجربة منذ 2003.

لا يضطر (حزب السلطة) لإخراج أفضل ما لديه من كوادر سواء في الترشيح للانتخابات أو في تولي مسؤولية المواقع العليا، وبالتالي كسب رضا الناس وزيادة الجماهير الناخبة، والسبب في ذلك، ببساطة، عدم وجود "حزب سلطة" واضح.

كل الأحزاب هي أحزاب سلطة بنسب متفاوتة حسب ما تجنيه من مقاعد نيابية في الانتخابات، وبالتالي فلا خاسر حقيقي في لعبة صفرية. لذا، يكون أساس المخاض ـ الذي يعرقل التوافق ـ هو على حجم المغانم المتحصّلة في الوزارة ودرجاتها الخاصة، والتي تُترجم إلى مشاريع اقتصادية وصفقات ووظائف تُتيح للأحزاب توزيعها على الجمهور بوصفهم أصوات انتخابية.

يُتيح التوافق من هذا النوع ـ التوافق على الوظائف فقط ـ الاسترخاء للجميع، وعدم مواجهة الضغوط الإيجابية المحفّزة للعمل وتقديم الخدمة للمواطنين.

ماذا عن التكنوقراط؟

بانت عيوب النظام التوافقي في حكومة عادل عبد المهدي بشكل مركّز، فبعد سلسلة الإجراءات التي اتخذها سلفه العبادي، وهزيمة داعش، وصعود تحالف سائرون بشعارات الإصلاح، وانتفاضة البصرة عام 2018، والصِدام الخارجي المتسارع والمنعكس على الداخل، تشكلت حكومة بلا أب، وبنسبة أكبر من الوزراء المتخصصين (التكنوقراط) غير المنتمين للأحزاب، بالمعنى التقليدي للانتماء، وتلك حالة جديدة.

تجربة محمد توفيق علاوي أعطت درسًا بأن حكومة التكنوقراط الخاضعة لتوافق جزئي ضئيل، غير قابلة للتمرير من الأساس!

لكن العديد من الأحزاب اتخذت طريقًا آخر للالتفاف على الحالة الجديدة، عبر تعيين الحزب لمدير مكتب الوزير (التكنوقراط) في الوزارة التي هي من حصة الحزب، وبالتالي، بقيت المشاريع الاقتصادية والعقود والتعيينات تمر عبر مدير المكتب التابع للحزب. إضافةً إلى ذلك، جرى توزيع الدرجات الخاصة في الوزارات والهيئات على الكتل السياسية الكبيرة، فواجهت حكومةُ "الحالة الجديدة"، التي طفحت على جلدها عيوب النظام وتراكمات الفساد، بعد عامٍ من تشكيلها، أكبر انتفاضة شعبية ربما في تاريخ العراق.

اقرأ/ي أيضًا: عصر الجماهير: لا جديد تحت نصب الحرية

بوصفنا أحد الأصوات التي دعمت فكرة حكومة التكنوقراط، والتي رفع شعارها نخب ومثقفون وإعلاميون وسياسيون إضافةً لتبنيها من قبل التيار الصدري، نقول، لقد كان الهدفُ منها هو تجفيف منابع التمويل من الأحزاب عبر سحب الوزارات من سطوتها؛ لكن تجربة حكومة عبد المهدي التي اعتمدت على توافق كبير، أثبتت أن الفكرةَ كانت صالحة لمدة وجيزة قبل الانتخابات لاعتبارات معيّنة، وهي غير قابلة للاستمرار، ومُتاحة للاختراق من قبل الأحزاب. كما أن تجربة محمد توفيق علاوي أعطت درسًا آخر بأن حكومة التكنوقراط الخاضعة لتوافق جزئي ضئيل، غير قابلة للتمرير من الأساس!

الانقسام الضروري

في إطار المباحثات حول حكومة المكلف عدنان الزرفي (أو غيره إن أخفق)، لا بد من تجديد القول بضرورة وجود حكومة ومعارضة أولًا، ثم التفكير في التكنوقراط ثانيًا، للأسباب التي ذكرنها سابقًا وأعلاه، لمنع تكرار "الفشل الوظيفي" في إدارة الدولة، وليتحمل الطرف الذي يشكّل الحكومة مسؤولية الفشل أو النجاح الحاصل سواء بتشكيلة وزارية حزبية أو من التكنوقراط، فعدم وجود حزب/أحزاب سلطة يُعيد المشاهد السابقة، حيث حكومة الجميع اليتيمة.

لا ضمانة أن تتنازل الأحزاب المُشكّلة للسلطة عن المغانم، لكنها؛ باحتكار السلطة التنفيذية لها، ستخلق مُقابِلًا مُعارِضًا شرسًا يفضح توزيع الوظائف أو تمرير المشاريع والعقود للشركات والشخصيات التابعة للأحزاب المهيمنة على القرار. وهو التوازن المطلوب الذي يضع المواطن/المحتج حجر الأساس في التنافس على السلطة.

يَخلق هذا التوازن، المفقود في حالات التوافق، جدليةَ بين "المعسكرين" مفادها أن معسكر السلطة سيكون مجبرًا إما على إرضاء المعارضة أو إرضاء الشارع، والخيار الأول مُنتفٍ بحكم أن المعسكر الحكومي لن يُقدِم على توزيع المغانم لجميع الأحزاب وتحمّل المسؤولية لوحده. سيكون غباءً حتى بمقاييس المصلحة الضيّقة.

أما في حالة التوازن التوافقي الذي اعتاد عليه النظام فأن المعادلة تكون: يضطر الحزب/التكتل الأكبر الذي يتبنى رئيس الحكومة بإرضاء بقية الأحزاب وإسكاتهم، وبالتالي لا أهمية لعامل الجماهير، ولا حراك سياسي يَخلق دينامية في الحياة السياسية/الاجتماعية ولو عبر وسائل الإعلام، وهو ما يَضرب الديمقراطية في صميمها.

لا بد من انقسام الأحزاب إلى معسكرين، وسيجبر النظام الانتخابي معسكر السلطة على إسكات معسكر المعارضة المتربص، عبر طرق سيختارها هو، كاتخاذ خيار إرضاء الناس عبر الاستثمارات الحقيقية وتوفير الخدمات وتنشيط الاقتصاد وبسط الأمن ومحاربة الفساد وتقليل المحسوبية في المشاريع والعقود والتوظيف، وهو ما تتطلبه عملية الإصلاح، أو اتخاذ خيار الاستئثار بالسلطة والإبقاء على آلية إدارة الحكومة التقليدية لكن بانفراد معسكر دون آخر، ما سيقوّي جبهة هذا "الآخر" الشعبية، وهو ما تتطلبه العملية الديمقراطية الصحّية.

مخاطر محتملة؟

قد يؤدي الانقسام لمعسكرين داخليًا إلى انقسام المعسكرين خارجيًا، وهو ما حذّرنا منه في الحديث عن "الأغلبية السياسية"، ويحذّر منه الكثير من رجال السياسة والأمن لما له من تداعيات على الوضع العراقي الهش.

الانتخابات المبكرة إن جرت بشروطها ستنتج خارطة جديدة تُعدّل المسار وتتيح العديد من الخيارات المتعسّرة في الوقت الحالي

لا شك، أن حالة الصراع والتدافع الخارجي انعكست على العراق في المرحلة السابقة وأدت إلى تهشم أمني وسياسي واقتصادي، ولكن رعب الخروج من حالة التفاهم الأمريكي الإيراني لم يعد منطقيًا. لقد أصبح القلق من انهيار التوافق بينهما فاقدًا لمسبباته، بعد أن جرّب العراق كل أنواع الانفلات الأمني وسقوط المدن والتدهور الاقتصادي والانتفاضات والاعتصامات والاعتداء على معسكرات الحشد الشعبي والقواعد والسفارة الأمريكية فضلًا عن اغتيال قائدين مثل سليماني والمهندس في أرض العاصمة.

اقرأ/ي أيضًا: خيارٌ ثالث.. موقف المواطن/المحتج من حروب الوكالة

إن حالة "التخادم" الأمريكي الإيراني لم تجلب نفعًا للعراق ومصالحه العليا، بل تسبب توافقُ الطرفين باستنزافه على كل الصعد، وربما نصل ـ أو وصلنا ـ بسبب حالة "التصلب العصيديّ" في النظام، إلى تمني انتصار أي طرف على الآخر، وذلك سيعمّق حالة العجز وعدم الثقة بالنفس والاحتياج الدائم للتدخل الخارجي.

لدى كل جبهة سياسية تخوفات ذاتية من تدافع الدول الخارجية المؤثرة في العراق، وهي تخوفات موحدة لدى السنة والكرد، ومنقسمة لدى الشيعة، لكن هاجسيّ "العقوبات" و"البلبلة الداخلية" هما الخطران الأرجح حصولهما نظريًا في حال استدار العراق لطرف دون آخر، ودُعِمت الحكومة من طرف خارجي مقابل اعتراض الآخر. ولكن؛ حتى المخاطر هذه يُمكن مجابهتها حكوميًا، حين يضطر حزب السلطة "إن وجدْ" على التعامل معها، انقاذًا لنفسه، ودون انتظار الحلول من المتنازعين، وإلا سيواجه المجتمع المتأثر بها سلبًا، وهذا حافزٌ آخر لتأخذ الدولة على عاتقها حل المعضلات التي تهددها.

مع ذلك، إن انقسام الداخل في العراق على أساس الخارج ليس مسألة حتمية، ولقد خَبَرنا نتائج جولة المفاوضات التي سبقت تشكيل حكومة عادل عبد المهدي، وكيف أثّرت الظروف والتناقضات الداخلية، ونوع التوزيع العددي للمقاعد، والمصالح الحزبية، وقوة الفواعل المحلية، على تأثيرات الخارج، وكان أبرزها انضمام التكتل السني الأكبر للجبهة الشيعية الأقرب لإيران. لذا فأن الانقسام الحاد في المعسكر السياسي الداخلي بين أزرق وأحمر خارجيًا ليس الخيار الوحيد الذي ينتظرنا، مع اليقين أن الانتخابات المبكرة إن جرت بشروطها ستنتج خارطة جديدة تُعدّل المسار وتتيح العديد من الخيارات المتعسّرة في الوقت الحالي.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أغلبية وطنية بجبهة عربية.. نحو عُرفٍ سياسي جديد

في العدمية السياسية