بالقرب من تمثال شهرزاد وشهريار في العاصمة العراقية بغداد، اجتمع الباحثون عن السلام. ارتدوا الأبيض، وابتسموا جميعًا، ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، الجميع يُريد أن يحتفل بيوم السلام العالم،21 أيلول/سبتمبر، في مدينة يُراد لها أن تُجرد من السلام، وأن تكون غابة يحكمها الأقوياء لا العُقلاء.
على ضفاف نهر دجلة، الذي كان قبل سنوات المحطة الأخيرة للجثث مجهولة الهوية وضحية الاقتتال الطائفي وما تبعه من إخفاء قسري، توزع أكثر من 500 ناشط مدني على أجنحة متعددة. هُناك من يرسم ويبيع اللوحات، وهناك الأطباء الذين يقدمون خدمات مجانية للزائرين وهناك المكتبات.
لا أرصفة تسرد حكايات عُشاق مروا عليها قبل ساعات، ولا بغداد نامت بسلام
هؤلاء الشباب حملوا على عاتقهم مسؤولية إغاثة النازحين، فقرروا أن يكون ريع المهرجان وبيع مُنتجاته مُخصصًا لأؤلئك الذين تركوا ديارهم ويسكنون العراء.
في المسرح الوطني الذي يبعد ثلاث كيلومترات عن مكان إقامة مهرجان السلام، كانت الموسيقى تعزف على وتر نصير شمة. هو الآخر كانت حفلته مخصصة لمساعدة النازحين. في مهرجان السلام وعلى المسرح الوطني كانت تُردد كلمات الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان في وقت واحد "موطني.. موطني.. الشباب لن يكل.. همهم أن يستقل".
كانت بغداد تفتقد في سنوات سابقة إلى الحفلات الموسيقية بهذا الشكل المُعلن، كان الذين يعتقدون بأنفسهم وكلاء الله في الأرض يُحرّمونها، لكنهم كانوا يُحللون القتل والسرقات. بغداد عادت بشعرها وموسيقاها ورقصها وطربها، وأولئك الوكلاء في رحلة التلاشي المرتقب.
حفلات الزفاف كانت تمر بالقرب من مهرجان السلام، العرسان ينظرون إلى الحدائق التي أقيم عليها هذا الكرنفال الأبيض، ويتمنون لو أنهم جزء منه. فتيات وشبان لم يدخلوا عش الزوجية بعد، كانوا يغبطون من يُهَلهل لأجله وترقص وتُصفق الناس بزواجه. الزواج أعلن عن بداية حياة جديدة والمهرجان وضع البذرة الأولى لإرساء السلام في تلك الحياة.
لم يتوانى منظموا المهرجان من الشباب لحظة واحدة عن رسم الابتسامة على وجوه الحاضرين، فجميلات بغداد كان لحضورهن بصمة، ولأطفالها جمالية كبيرة، هكذا يُريد عُشاق بغداد لمدينتهم، أن تكون شوارعها خالية من الدمار، مفعمة بالحياة والمرح.
ناشطون مدنيون في احتجاجات بغداد القائمة، قالوا عند حضورهم للمهرجان إنه "تظاهرة من نوع آخر، فالواقفون في ساحة التحرير لديهم رسالة يريدون إيصالها، وهذا المهرجان لديه رسالة مشابهة". شباب بغداد يحاولون اليوم إشاعة التمدن في مدينتهم التي تُقطع شوارعها الجدران الكونكريتية وأسلاك شائكة، وُطرقات مُنعت عن المواطنين منذ 12 عامًا، الحراك القائم في المدنية، وما يرفده من فعاليات كالفعالية المعنية بالحديث هنا، يغيران وجه المدنية رويدًا رويدا.
كان للمهرجان الذي أقيم في حدائق أبي نؤاس في يوم السلام العالمي رسالة من شباب ولد جميعهم في فترات حروب وحصار، بأن السلام الذي لن تُزرع بذوره من الداخل، لن يأتي بها أحد من خارج الحدود.
في ذات الوقت كان إرهابي يقود سيارة مفخخة يحاول الوصول إلى هدفه، وعلى بعد كيلومترات غير معدودة داخل حدود العاصمة بغداد، كانت هُناك شاحنة كبيرة صُنعت عليها قاعدة صواريخ مُهيئة لإطلاقها مع حلول الظلام على منطقة أخرى بطريقة عشوائية.
انتهى نصير شمة من عزفه على قاعة المسرح الوطني في منطقة الكرادة، كما انتهى الشباب من مهرجانهم بعزف موسيقي وقراءة النشيد الوطني. كانت نهاية الموسيقى ومهرجان السلام بداية لبدء صفحة جديدة من يوم بغداد تمر عليه العصور الوسطى وعصر النهضة في آن واحد.
دوي انفجارات في مناطق شرقي العاصمة، التي لم تسلم من السيارات المفخخة منذ 12 عامًا، وفي شمالي العاصمة كانت هُناك صواريخ "كاتيوشا" تتساقط دون أن يعرف أحد مصدرها. هذه الصواريخ أزعجت سكان بغداد، فهم لا يريدون كسر روتينهم، لأنهم تعودوا على المفخخات التي لن يتفاجئوا بها.
ظلت الصواريخ تتساقط في مناطق شمالي بغداد، تُقابلها بيوت تنتحب لفقدان أعزة وأحباب. يوم بغداديّ جديد مفعم بالدراما، كانت موسيقى نصير شمة في منتصفه تايتل لذلك المساء الحزين، فلا سلام في يوم السلام، ولا حكايات بين شهرزدار وشهريار، ولا كأس ظل بيد أبي نواس، ولا كهرمانة بقيت تصب الزيت على السُراق، ولا أرصفة تسرد حكايات عُشاق مروا عليها قبل ساعات، ولا بغداد نامت بسلام.
اليوم الذي بدأ بتحضيرات لإقامة فعاليات بمناسبة يوم يحتفل فيه العالم أجمع بالسلام، انتهى بالنسبة لسكان العاصمة بغداد بسلسلة من الصواريخ الطائشة والمفخخات العمياء، وبأنين أمهات ودموع أطفال، وفراق سيحكي قصة حبيبات تعودن الحزن في هذا العراق، وأطفال ينتظرون دُمى من والدهم اختلطت أجزائها مع أشلاء إنسان آخر.