02-نوفمبر-2018

سعدي الكعبي/ العراق

أشعر بالندم على السنوات الثلاثين التي استهلكتها بممارسة هذه المهنة اللعينة، بما خلّفته من كوارث وأحداث بائسة. آه، لو كنت فلاحًا بأرض أبي لكان أفضل بكثير من كوني طبيبًا نفسيًا. هذه المهنة التي حبستني بعيادتي الوحيدة لعقودٍ من الزمن في مدينة حتى أطباؤها مرضى. كل معاناتي وجرب ضميري الآن هو بسبب المواقف والأحداث التي حصلت معي في هذه المهنة. هذه السنوات أصبحت ثقيلة على شيخوختي، كطفلٍ رضيع يحمل ثدي أم مصابة بسرطان الثدي على خدِه وهو نائم. لكن ما حدث معي مساء البارحة كان الموقف الأبشع على الإطلاق من بين كل الأحداث التي دمّرتُ بها حياة الناس. وبسببه أشعر الآن بفؤوس الموت الباردة تحتطب عظام جمجمتي من الداخل ولا أستطيع إيقافها.

صادف ذلك أثناء خروجي من باب العيادة عند آخر انحناءات الغروب. واجهني شاب بعمر الثلاثين في الفرع الثاني من يمين شارع الأطباء، أسمر وتتبثر على جبهته بقع العرق الناعمة رغم موجة البرد القارس التي تشهدها المدينة من أسبوعين. وقف أمامي وظل يُحدّق بوجهي وكأن نظراته تحوّلت لمعاول حادة يحفر بها جدران الزمن. أقترب مني وقال:

-مرحبًا يا دكتور ألياس العظيم.

تمعنت بوجِهه. وبردٍ عابر قلت:

-مرحبًا يا ولدي.

أقترب من وجهي أكثر وسألني:

ـ هل تعرفني يا حضرة الطبيب العظيم؟

ـ عفوًا! لا أعتقد ذلك، حتى وأن رأيتك من قبل، لا أذكرك.

-حسنًا أيها الطبيب العجوز، أنت لا تذكرني وهذا من حقك طبعًا. أنا أذكرك.

-وماذا تريد الآن يا ولدي؟ هل من خدمة؟

-أُريد أن أذكِّرك بي، لكن ليس هنا، بالعيادة وحدها يمكنني ذلك.

توجستُ شيئًا من الخوف. تأملتُ وجهه عسى أن أتذكّره أو قد يكون أحد المرضى الذين عالجتهم بعيادتي لكن ذاكرتي لم تفلح كما في كل مرّة. وامتثالًا لما طلبه مني بكل أدب وذوق، ولأن العيادة قريبة جدًا منا، رجعت لأفتح عيادتي بصحبته. كانت العيادة مظلمة وباردة كثلاجة موتى؛ حيث ساعات الليل الأولى وانقطاع التيار الكهربائي بسبب المطر الذي بدأ يسقط بغزارة توًا. وبعد مرور دقائق من جلوسنا متقابلين داخل غرفة العيادة المظلمة، أشعلتُ مصابيح الشحن البيضاء المعلقة بسقف الغرفة لأعرف ماذا يريد هذا الرجل في هذا الوقت المتأخر. سألته عما يريد قوله، فقال:

-بلا مقدمات يا حضرة الطبيب إلياس العظيم، أنا يونس، ابن المرأة الجميلة علياء. ذات يوم، أنت كنت السبب بحدوث أكثر من جريمة وتدمير أسرة كاملة.

ما أن ذكر أسم علياء حتى ارتجفت أطرافي وارتعشت ذاكرتي. تمتمت لأكثر من مرّة وأنا أحاول الرد عليه ولم أفلح بنطق جملة واحدة. تصخّر فضاء فمي، انكمشت ملامحي. تعرق وجهي. فككت عقدة ربطة عنقي. أحسست بأشباح تحبس الكلمات داخل حنجرتي كلما حاولت النطق. وبعد جهد وحركات مختلفة تمالكت نفسي وتمكنت من الرد عليه:

-أنا! مستحيل! ما هذا الكلام والتهم يا سيد يونس! هل تعرف مع منْ تتكلم؟

ضحك يونس بصوتٍ مرتفع، توتّر بؤبؤ عينه اليسرى ودمعت عينه اليمنى، أستدار نحو الجدار، جلس على سرير مخصَّص للمرضى داخل الغرفة وقال:

-سأقول لك كل شيء وأرحل يا حضرة الطبيب إلياس العظيم.

في هذه اللحظة توقف المطر وعاد التيار الكهربائي للعمل، مروحة السقف بدأت تطن، أطفأتُ مصابيح الشحن، قلّصتُ عضلاتي الصوتية وقلت له:

-تفضل وقل بلا مقدمات رجاءً.

-ذات نهار صيفي، قبل عشرين عامًا وتسعة أشهر وثمانية أيام، نعم هكذا بالضبط، جاءت بي أمي علياء إلى هذه العيادة نفسها، حيث لم يكن في المدينة طبيب نفسي غيرك، كان عمري حينها سبعة أعوام فقط. أنا كنت جالسًا هنا تمامًا. أما أنت فقد تركت كرسيك الخشبي وجلست على الكرسي هذا، مقابل أمي تمامًا، وبعد أن شرحتْ لك أمي مشكلتي التي أعاني منها آنذاك...

غرق وجهي بالعرق السائل من أعلى رأسي. مسحت وجهي بطرف معطفي. قاطعته قائلًا:

-وما هي مشكلتك في ذلك الوقت؟

-أنت تعرف مشكلتي وتتذكر جيدًا، لكن مع ذلك سأجيبك. كنت أبكي كثيرًا وبلا أي سبب، في المدرسة وفي البيت، في الليل والنهار، في اليقظة والنوم، هكذا على طول اليوم. لكنك كنت منشغلًا بمغازلة عيّني أمي الزرقاويتيّن وهي تشرح لك وتستشيرك أكثر من الانشغال بالمريض الذي هو أنا. وأتذكر أنها قالت لك: أن طفلي هذا يبكي ويصرخ باستمرار، فحصته عند أطباء من أخصائيي أمراض الاطفال لكنهم قالوا لي سليم ولم يجدوا به مرضًا. لم تُكلف نفسك بالنظر إليّ بعد كل هذا الكلام الذي أخبرتك به أمي، وحسب ما أتذكر أنك لمحتني بطرف عينيك مرة واحدة أو مرتين فقط! أما المرة الثالثة التي أمعنت بالنظر إليّ فيها، هي حين صرختُ فجأة بعدما كنتُ ساكتًا هادئًا. كنت تسأل أمي أسئلة شخصية بحجة تأثيرها على سبب بكائي، وفي الوقت نفسه تناسيت وجودي أثناء حديثك معها، أو كنت تظن انني طفل لا أحفظ أو أُفسّر أي شيء بما يتلاءم مع عمري آنذاك. سألتها عن أبي وماذا يفعله في البيت. أخبرتك أمي عن مزاجيته وعصبيته السيئة معنا، أخبرتك أنها تقوم بكل تكاليف المنزل من دون مساعدة أبي الكسول. سألتها عن كل شيء يخصّها وكأنك حبيبها وأجابتك عن كل شيء يخصّني بصفتك طبيبٍ نفسي. وفي تلك اللحظة التي توقفتُ بها عن البكاء سمعتك تقول لها: إن زوجك هو السبب في كل هذه المشاكل، هو السبب ببكاء طفلك المفاجئ، والحزن المتبثر على ملامح وجهك الجميل، وإذا لم يكف عن إزعاجكم عليكم أن تتخلصوا منه بأسرع وقت وبأي طريقة ممكنة. وبعد أن أنهيت كلامك هذا مع أمي، لا زلت اتذكر أنك طلبت عنوان منزلنا وغيرها من الأساليب المراهقة.

بينما كان يتكلم يونس ويُقشّر أغلفة الزمن بسكاكين ذاكرته حتى بدأ يتصاعد الارتجاف الى أحشاء جمجمتي. مددتُ يدي اليمنى وسحبت هاتفي من جيب بنطالي، كتبت فيه رسالة الى ضابط أمن مستشفى الأمراض النفسية ليرسل قوة أمنية لعيادتي فورًا ويأخذوا هذا الرجل المريض قبل أن يفعل شيئًا خطيرًا وغير متوقع، وليس ببعيد أن يقتلني في هذا الليل ويقطع رأسي حتى. كنت أكتب الرسالة بحذرٍ حتى لا ينتبه يونس ويكشف وحشيتي أكثر.

وبينما هو يمسح عن وجنتيه الدموع، سألته:

-هل أكملت كلامك الذي لا حقيقة له يا سيد يونس؟

-لا، حتى الآن لا توجد جريمة أصلًا، رجاء لا تقاطعني حتى أقول كل شيء وتعرف الحقيقة جيدًا وبعدها أذهب من هنا.

-تفضل أكمل يا سيد يونس.

-بعد خروجنا من عيادتك في عصر ذلك اليوم، كنت أمشي في السوق مع أمي ساكتًا، لأول مرة كنت أمشي في السوق ساكتًا دون أن أطلب من أمي أن تشتري لي بعض الألعاب والحلويات من العربات المرصوفة على جانبي شارع الأطباء آنذاك؛ حيث في تلك اللحظات كنت أستعيد كلامك الذي وجهته لأمي وتحذيراتك لها من أبي لأجلها ولأجلي. كان عقلي الصغير قد حفظ كل ما قلته لها ولكن كنت أفهمه على مقاس إدراكي الصغير والطفولي.

سكت لثواني وهو يبكي ويضرب الجدار بقدمه، ثم صرخ قائلًا:

-يا ليتك كنت طبيبًا واعيًا ويعرف بآثار ما يقوله للكبار تحت مسمع الصغار، لكنك كنت غبيًا جدًا أو مراهق سخيف ليس أكثر. حتى أمي استغربت من سكوتي الذي حافظت عليه حتى عودتنا للمنزل ليلًا. عندما دخلنا المنزل كان أبي نائمًا، وعلمت أمي أنه قد أفرط بشراب البيرة حتى نام. أمي دخلت للحمام لتستحم وتُغيّر ملابسها، وأنا ذهبت للمطبخ لأتناول تفاحة من الثلاجة. في المطبخ تذكرت كلامك الذي قلته لأمي عن أبي: "عليكم أن تتخلصوا منه بأسرع وقت وبأي طريقة ممكنة". هذه الكلمات ظلّت تترافس داخل رأسي الصغير وتحاول الخروج بأي وسيلة. حينها راودتني فكرة، ابتسمت، وأخذت السكين من جرّارة السكاكين وملاعق الطعام، وبدلًا من أن أُقشّر التفاحة دخلت إلى غرفة أبي، كنت أقبض السكينة بكلتا يديّ بعد أن رميت التفاحة في الأرض، طعنتهُ في يسار صدره ثلاث مرات متسارعة كالبرق، وفِي المرة الرابعة أوغلتها كلها، وقبل أن يُكمل صرخته مات. خرجت أمي من الحمام عارية، وما أن رأت المنظر الدموي البشع حتى أُغمي عليها وسقطتْ على البساط الذي تحول إلى بحيرة حمراء، أما أنا كنت أبتسم فقط. ولكن بعد ساعة استيقظت أمي و...

وقبل أن يُكمل كلامه دخلت مجموعة من رجال الشرطة مسدّدين أسلحتهم بوجه يونس. هجموا عليه، أوقعوه أرضًا، شدّوا ذراعيه إلى الخلف وعصبوا عينيه. كنت أسمع صراخه رغم اللاصق السميك الذي دفنوا به فمِه. لم يحاول التملص منهم بقدر ما كان يحاول الصراخ ليثبت لهم حقيقتي المريضة، وأنني من يستحق الضرب وليس هو. لا أعرف كيف وصلت منزلي ليلة البارحة بعد كل هذا النزيف في دهاليز نفسي. لقد لطّخ شيخوختي ببقع طفولته الحمراء! لقد ترك في داخل جسمي سكاكين ذاكرته تمزقني ورحل. آه لو سمحت له أن يُكمل لي مصير أمه علياء حتى أموت دُفعةً واحدة بدلًا من كل هذا الموت البطيء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحبس بتهمة الضحك

بأسنان متوحشة تضحك الحياة